هذا وقد اتفق العلماء على أنّ المراد من المباشرة في قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) الجماع ، وتدخل الدواعي في الإباحة من طريق الأولوية.
وكذا اتفقوا هنا على أن المعتكف ممنوع من الجماع ما دام معتكفا.
واختلفوا في أن الدواعي لها حكم الجماع بالنسبة للمعتكف ، فتكون حراما عليه ، وتفسد الاعتكاف ، أو ليس لها هذا الحكم؟
قال الشافعية ومن معهم بالأول ، وذهب الحنفية إلى الثاني.
وقال الشافعية : إنّ الآية تشهد لنا ، وذلك أن المباشرة حقيقة في وضع البشرة على البشرة ، فيعمّ كل ما يتحقق فيه هذا المعنى ، ولا يخرج عنه شيء إلا بدليل ، وقد قام الدليل في قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) من سبب النزول ومن قوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ولم يقم الدليل هنا ، فوجب أن يبقى اللفظ على عمومه ، ومن هنا نقل ابن القاسم (١) عن مالك أنه إن قبّل امرأته فسد اعتكافه ، وقال المزني عن الشافعي : إن باشر فسد اعتكافه.
وأما الحنفية فرأوا أن الآية الأولى قد أريد منها المباشرة بالجماع اتفاقا ، والثانية ذكرت المباشرة أيضا ، فيحتمل أن يكون المراد بها غير ما أريد بالأولى ، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعمّ ، فكان مجملا ، وقد جاء عمل الصحابة مؤيدا لفهم معنى الجماع فحسب. نقل ذلك عن ابن عباس وغيره.
وقد روي عن الزهري ، عن عروة ، أن عائشة «كانت ترجّل رأس رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو معتكف» فكانت لا محالة تمسّ بدنه ، فدلّ ذلك على أن المباشرة المجردة عن الشهوة لا تفسد الاعتكاف ، ومن هنا أخذ الحنفية أنه إن باشر بغير جماع لا يفسد اعتكافه إلا إذا أنزل ، وإن فعل بشهوة ولم ينزل فقد أساء (٢).
وهم يرون أيضا أنّ المباشرة الخالية عن الجماع لا تمنع من الصوم ، فكذا لا تمنع الاعتكاف ، هذا وقد ذكر المفسرون هنا أحكاما تتعلّق بالاعتكاف لا نرى لها تعلقا بالآية ، فلم نشأ ذكرها.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
حدّ الشيء : مقطعه ومنتهاه. وحدّ الدار : ما يمنع غيرها من الدخول فيها. وحدود الله : محدوداته ومقدّراته التي قدّرها بمقادير مخصوصة ؛ وصفات مضبوطة.
__________________
(١) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري ، صحب الإمام مالك ، وصنّف المدونة توفي (١٩١ ه) في مصر ، انظر الأعلام للزركلي (٣ / ٣٢٣).
(٢) انظر كتاب أحكام القرآن للجصاص (١ / ٢٤٧).