لفظها عاما ، وقد قال الحسن : فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنّها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء.
والفاسق : الخارج من حدود الشرع ، من قولهم : فسق الرطب : إذا خرج عن قشره ، وسمي به الفاسق لانسلاخه عن الخير ، والفسق أعمّ من الكفر ، لأنه يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، ولكن تعورف فيما كان بكثيره ، يكثر ما يقال لمن كان مؤمنا ، ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.
والتبين : طلب البيان ، وقد قرئ (فتثبتوا) بدل (فَتَبَيَّنُوا) وهما متقاربان ، إذ التثبت طلب الثبات ، وما كان ثابتا كان قريب المعرفة. ويرى بعض اللغويين أنّه لا يقال للخبر نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة ، ويكون معنى الآية : إن جاءكم أيّ فاسق بنبإ عظيم ، له نتائج عظيمة ، فلا تقبلوه بادئ الأمر ، بل توقّفوا فيه ، وتثبتوا ، حتى تأمنوا العاقبة.
والتعبير بكلمة (إن) التي هي (للشك) للإشارة إلى أنّ الغالب في المؤمن أن يكون يقظا ، يعرف مداخل الأمور ، وما يترتّب عليها ، وإذ يكون هذا شأن المؤمنين فلا يجيئهم كاذب يكذب عليهم ، وإن وقع ذلك يكون على ندرة وقلّة.
وقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) تعليل للأمر بالتبين ، وهو إمّا مقدّر فيه لام التعليل قبل (إن) و (لا) النافية بعدها ، أي فتبينوا لئلا تصيبوا ، وإما مقدر فيه (الكراهة) أي كراهة أن تصيبوا. وقوله : (بِجَهالَةٍ) أي متلبسين بجهالة ، أي جاهلين حالهم ، أو تصيبوهم بسبب جهالتهم أمرهم وما هم عليه.
و (أصبح) هنا بمعنى (صار) والمعنى : فتصيروا من بعد تبيّن الأمر نادمين ، ويستمر معكم هذا الندم.
والندم ضرب من الغم ، وهو أن يلحق النادم الغمّ على ما وقع منه ، يتمنى أنه لم يقع ، وهو غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزوم ، لأنه كلما تذكر فعله راجعه الندم.
وقد استدلّ بالآية على أنّ الفاسق أهل للشهادة ، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ، قاله الآلوسي ، وقال الأثري : إنّ العبد إذ شهد لا تقبل شهادته ، ولا يحتاج فيها إلى التبيّن.
ومذهب الحنفية (١) أنّ الفاسق لا تقبل شهادته ؛ وإن كان أهلا لها ، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا ، وينفذ قضاؤه ، وتقبل شهادته عندهم في النكاح ، لأنّ الشهادة من باب الولاية ، وهو لمّا جاز أن يكون وليا على الزوجة في مالها ، جاز أن يلي عليها في بضعها ، وعبارته في النكاح عبارة ، وتعبير عن ثبوت العقد لا إلزام فيها ، ومن مذهبهم ألا تقبل الشهادة من الفاسق فيما فيه إلزام ، والإلزام الذي في النكاح لم يجئ من الشهادة ، وإنما جاء من التزام المتعاقدين في العقد.
__________________
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ١٣١).