وهذا خاصّ في المطلقة دون الثلاث ، فخصوص هذا لم يبطل عموم اللفظ في الأول.
وقالت المالكية والشافعية : إن الكلام لا يتم عند قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وإنما ينقضي عند قوله : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فالله قد أوجب المساواة ، ثم بيّن المساواة المعتبرة ، فبيّن أن الحرّ يساويه الحرّ ، والعبد يساويه العبد ، والأنثى تساويها الأنثى ، وقد كان التقسيم يوجب ألا يقتل الرجل بالمرأة ، ولكن جاء الإجماع على أنّ الرجل يقتل بالمرأة.
فمناط الاستدلال عندهم أن الله أوجب المساواة والمماثلة في القتل ، ثم جاء بالأصناف ليبين المساواة المعتبرة ، فكأنه كتب أن يقتل القاتل إذا كان مساويا للمقتول في الحرية.
وإذا كان الحر لا يقتل بالعبد ، فالمسلم لا يقتل بالذمي ، لأن نقص العبد برقّه الذي هو من آثار الكفر ، فلا يقتل به المسلم ، ويدل له صلىاللهعليهوسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده» (١).
قالوا : وقد كان ظاهر الآية يفيد ألّا يقتل العبد بالحر ، ولكنا نظرنا إلى المعنى ، فرأينا أن العبد يقتل بالعبد ، فأولى أن يقتل بالحر ، وإذن فالآية قد جاءت لتبيّن من هم أقل في المساواة ، فلا يقتل بهم من هو أعلى منهم ، فلا ينافي ذلك أن يقتل الأنقص بالأزيد ، ويعضّد هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنه لا مساواة بين طرف الحر وطرف العبد ، ولا يجري القصاص بينهما في الأطراف ، فكذلك لا يجب أن يجري في الأنفس.
والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة ، لأنّ هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان المساواة المعتبرة قد أخرجوا منه طردا وعكسا الأنثى بالرجل ، فذهبوا إلى أن الرجل يقتل بالأنثى ، والأنثى تقتل بالرجل ، وذهبوا إلى أن الحر لا يقتل بالعبد ، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر ، فهذا كلّه يضعف مسلكهم في الآية.
أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف ، وحينئذ يكون العبد مساويا للحر ، ويكون المسلم مساويا للذمي في الحرمة ، محقون الدم على التأييد ، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام.
ويعضّد هذا أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم في الحرمة ، فإن سرقه مسلم قطع فيه ، فإذا كان لماله حرمة مال المسلم فوجب أن يكون لدمه حرمة دم المسلم ، إذ حرمة ماله إنما هي تبع لحرمة دمه ، ويعضّد ما ذهب إليه أبو حنيفة من شرع قتل
__________________
(١) رواه ابن ماجه في السنن (٢ / ٨٨٨) ، كتاب الديات ، باب لا يقتل مسلم بكافر حديث رقم (٢٦٦٠).