وقال المالكية والشافعية : يجوز القضاء بشاهد ويمين ، لا باعتبار أن هذا قسم ثالث للشهادة ، وإنما هو باعتبار أن القضاء باليمين وإسقاط الشاهد ترجيح لجانب المدّعي ، وأما عدم ذكر ذلك في القرآن فلا يمنع مشروعيته والعمل به. يدل على ذلك أن القضاء عند الحنفية يجوز بالنكول ، وهو قسم ثالث ، ليس له في القرآن ذكر.
والضمير في قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) يعود إلى المخاطبين المسلمين ، وهو دليل على أنه لا بد من إسلام الشهود ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وأحمد وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى (١).
ثم أراد تعليل اعتبار العدد في النساء فقال : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) أي إنما اعتبر التعدّد في شهادة النساء لما عسى أن تضلّ إحداهما ، فتذكر إحداهما الأخرى. والعلّة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سببا في التذكير ، وكان الشأن في النساء الغفلة والنسيان ، نزّل منزلة العلة ، كما في قولهم :
أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ، فإن العلّة هي الدفاع ، ولما كان مجيء العدو سببا فيه نزّل منزلته ، فهو علة حذف منها لام التعليل.
ويصح أن يكون مفعولا لأجله. أي إرادة (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ) إلخ.
ويقال في العلة الحقيقية هنا ما قيل في الوجه الأول ، والضلال بمعنى النسيان. وقرأ حمزة : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) بكسر (أَنْ) وجعلها شرطية مع رفع فتذكر ، و (تَضِلَ) فعل الشرط. وقوله : (فَتُذَكِّرَ) مرفوع بالضمة ، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
ثم أوصى الشهود ، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة ، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة فقال : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء الشهادة ، أو لتحمّلها ، ورجّحوا الحمل هنا على التحمّل لأنه منهي عن كتمان الشهادة ، أي بالامتناع عن الأداء بقوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) و (ما) زائدة ثم عاد إلى أمر الكتابة فأكّد طلبها حيث قال : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي لا تملّوا من كتابة الدّين ، أو الحقّ مهما كثرت معاملاتكم ، سواء كان الدين أو الحق (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) فلا تسأموا من كتابته (إِلى أَجَلِهِ) أي حال كون الدين أو الحق مستقرا في الذمة إلى أجله ، أي إلى وقت حلول الأجل الذي أقرّ به المدين (ذلِكُمْ) الذي أمرتكم به من الكتابة ، والإشهاد (أَقْسَطُ
__________________
(١) رواه البخاري في الصحيح (٨ / ٣٨) ، ٨٧ ـ كتاب المحاربين ، ٢٤ ـ باب أحكام أهل الذمة حديث رقم (٦٨٤١) ، ومسلم في الصحيح (٣ / ١٣٢٧) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٦ ـ باب رجم اليهود حديث رقم (٢٨ / ١٧٠٠).