(وَلْيُمْلِلِ) أي يملي ، يقال أملّ إملالا إذا كان أملى إملاء.
مناسبة هذه الآية : إنّ الآيات السابقة بيّن الله فيها حكم التعامل بالربا ، وشدّد في منعه ، فأراد هنا أن يبيّن حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالدين المؤجل بطريقة تحفظ الأموال ، وتصونها عن الضياع.
ويمكن أن يقال في المناسبة : إنّه لما بيّن فيما سبق أنّ الإنفاق في سبيل الله مطلوب ، وهو يوجب نقص المال ، وإن الربا محرّم ، وهو يوجب نقص المال أيضا ، أراد هنا أن يبيّن كيفية حفظ المال الحلال ، وطريق صونه عن الضياع فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ) تبايعتم وتعاملتم نسيئة (بِدَيْنٍ) بما يصحّ فيه الأجل ، كبيع سلعة حاضرة بنقود مؤجلة ، أو بسلعة أخرى مؤجلة ، وكبيع سلعة مؤجلة أي (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) مع معرفة الجنس والنوع والقدر بثمن حالّ ، وهو السلم ، أي إذا تعاملتم ببدل مؤجل (فَاكْتُبُوهُ) فاكتبوا ما يدلّ على هذا التعامل ، مع بيان الأجل بالأيام أو الأشهر أو غيرهما ، بطريقة ترفع الجهالة ، لا بمثل الحصاد والدياس مما لا يرفعها ، لأنّ الكتابة أوثق في ضبط الواقع ، وأرفع للنزاع.
ثم أراد أن يبيّن كيفية الكتابة ، ويعيّن من يتولاها فقال : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) أي مأمون يكتب (بِالْعَدْلِ) : وهذا أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه متديّن يقظ ، ليكتب بالحق ، ويتحاشى الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة والألفاظ المشتركة ، ويوضّح المعاني ، ويتجنّب خلاف الفقهاء.
ثم أوصى الكاتب ، ونهاه عن الإباء. فقال : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أي لا يمتنع أحد من الكتاب عن (أَنْ يَكْتُبَ) وثيقة الدين (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) على الطريقة التي علّمه الله في كتابة الوثائق ، أي يكتب كتابة كالتي علمه الله ، فالكاف صفة لموصوف محذوف.
أو المعنى : ولا يأب كاتب أن ينفع النّاس بكتابته ، كما نفعه الله بتعلّم الكتابة ، كما في قوله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧].
ثم قال : (فَلْيَكْتُبْ) أي تلك الكتابة المعلّمة ، فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) إلخ. ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ) إلخ.
ثم أرشد الله تعالى إلى أن الذي يملي على الكاتب هو المدين ، فإنّه المكلّف بأداء مضمون الكتابة ، فاللازم أن تكون الكتابة كما يراه ويعلمه ، ثم أوصاه بتقوى الله ، وبألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا حيث قال : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص (مِنْهُ شَيْئاً).
ثم بيّن أنه (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) أي ناقص العقل ، مبذرا في ماله ، (أَوْ