ولو انحازوا لا نحازوا إلى المشركين ، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض. وبه قال أبو حنيفة.
قالوا : ويؤيده قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فإنه إشارة إلى يوم بدر.
وقيل : إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف (١).
وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة ، وأن الفرار من الزحف محرم ؛ ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر.
فأجيب عن قول الأولين : إن الإشارة في يومئذ إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف ، كما يفيده السياق ، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، بل هذه الآية مقيدة بها ، ويكون الفرار من الزحف محرما بشرط بينه الله في آية الضعف.
ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها ، فقد كان بالمدينة إذ ذاك خلق كثير ، لم يأمرهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخروج ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ومن خرج معه لم يكونوا يرون ـ في الابتداء ـ أنه سيكون قتال.
ويؤيد هذا ما ورد من الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث : «اجتنبوا السبع الموبقات» (٢) وفيه التولي يوم الزحف ، ونحوه من الأحاديث.
وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه وهو مبين في مواطنه.
قال ابن عطية : والأدبار : جمع دبر ؛ والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في
__________________
(١) قال القاضي ابن العربي : «قال بعضهم : والنسخ في هذا لا يجوز لأنه وعيد ، والوعيد لا ينسخ لأنه خبر.
واختلف الناس في المراد بهذه الآية على قولين أحدهما : أنها في يوم بدر خاصّة ، وهو اختيار الحسن ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقيل : هي عامة في الأزمنة مخصوصة في العدد ، لقوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) والصحيح عمومها لوجهين :
أحدهما : أنه ظاهر القرآن ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) يعني يوم الزحف.
وثبت عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه عدّ الكبائر فقال : والفرار من الزحف وهذا نص لا غبار عليه.
وانظر : الناسخ والمنسوخ (٢ / ٢٢٨ ، ٢٢٩) ، والأحكام (٢ / ٨٣٢).
(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (٥ / ٣٩٣) ، (١٢ / ١٨١) ، ومسلم (٢ / ٨٢ ، ٨٣).