والنفاق (يُعَذِّبْهُ) أي على توليه في الدارين أو إحداهما (عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون فيهما والباقون بالياء التحتية.
ولما بين تعالى حال المخلفين بعد قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) عاد إلى حال بيان المبايعين. بقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ) أي : الذي له الجلال والكمال (عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : الراسخين في الإيمان أي فعل بهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدّر لهم من الثواب وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعدّ لهم في الآخرة فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة وقوله تعالى (إِذْ) أي : حين (يُبايِعُونَكَ) منصوب برضى واللام في قوله تعالى (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) للعهد الذهني وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم نازلا به في الحديبية ولأجل هذا الرضا سميت بيعة الرضوان وقصتها «أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام حين نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة فهموا به فمنعه الأحابيش واحدها حبوش وهو الفوج من قبائل شتى فلما رجع دعا عمر ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي لما أعرف من عدواتي إياهم وما بمكة عدوي يمنعني ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال ما أفعل قبل أن يطوف به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاحتبس عندهم فأرجف أنهم قتلوه فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة» (١) روى البغوي من طريق الثعلبي «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» (٢) وقال سعيد بن المسيب : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. وروي أنّ عمر مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين كانت فجعل بعضهم يقول ههنا وبعضهم يقول ههنا فلما كثر اختلافهم قال سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال : «قال لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض وكنا ألفا وأربعمائة ولو كنت اليوم مبصرا لأريتكم مكان الشجرة» (٣).
وقيل : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالسا في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائما على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه فرفعت الغصن عن ظهره وبايعوه على الموت دونه على أن لا يفروا فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنتم اليوم خير أهل الأرض» وكان عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. وروى سالم عن جابر قال : كنا خمس عشرة مائة. وقال عبد الله بن أبي أوفى : كنا أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة. ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم سبب عنه قوله تعالى (فَعَلِمَ) أي : بما له من الإحاطة (ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي : من الصدق والوفاء فيما بايعوا عليه (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح (عَلَيْهِمْ) أو
__________________
(١) أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ١٦٧ ، وابن الجوزي في زاد المسير ٧ / ٤٢٢.
(٢) أخرجه أبو داود في السنة حديث ٤٦٥٣ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٨٦٠ وأحمد في المسند ٣ / ٣٥٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٧٤.
(٣) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٥٤.