للرسالة مبالغة في تكذيبه ، ولهذا قالوا (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي : في دعواك.
تنبيه : مذهب البصريين أنّ (إِنْ) هذه هي المخففة من الثقيلة ، أي : وإنا نظنك ، والذي يقتضيه السياق ترجيح مذهب الكوفيين هنا في أنّ (إِنْ) نافية ، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في وما أنت المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه ، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظنّ يتوجه إلى غير الكذب ، وهو أبلغ من إثبات الظنّ به.
ثم إنّ شعيبا عليهالسلام كان توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً) أي : قطعا (مِنَ السَّماءِ) أي : السحاب أو الحقيقة (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي : العريقين في الصدق المشهورين فيما بين أهله لنصدّقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب.
تنبيه : انظر إلى حسن نظر شعيب عليهالسلام كيف هدّدهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشدّ منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسلهم ، وقرأ حفص بفتح السين ، والباقون بالسكون وهنا همزتان مكسورتان فقالون والبزي يسهل الهمزة الأولى من المدّ والقصر ، وأسقطها أبو عمرو مع المدّ ، والباقون بتحقيق الأولى.
(قالَ) لهم شعيب في جوابهم (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به فإن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم ، وأمّا أنا فليس عليّ إلا البلاغ ، وأنا مأمور به فلم أخوّفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم فطلبكم ذلك مني مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب.
(فَكَذَّبُوهُ) أي : استمرّوا على تكذيبه (فَأَخَذَهُمْ) أي : فتسبب عن تكذيبهم أن أخذهم (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء ، روي أنّ الله تعالى حبس عنهم الريح سبعا وتسلط عليهم الرمض : وهو شدّة الحرّ مع سكون الريح فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا شراب ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا ، وروي أن شعيبا بعث إلى أمّتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة ، فأهلكت مدين بصيحة جبريل ، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وقدمنا أن تعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من الإنجاء المطرد لكلّ رسول ومن أطاعه والأخذ المطرد لمن عصاه في كل عصر بكل قطر بحيث لا يشذ من الفريقين إنسان قاص ولا دان (لَآيَةً) أي : دلالة واضحة عظيمة على صدق الرسل وأن يكونوا جديرين بتصديق العباد لهم في جميع ما قالوه من البشائر والنذائر ، بأن الله تعالى يهلك من عصاه وينجي من والاه لأنه الفاعل المختار لما يريد (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي : أكثر قومك كما كان من قبلهم (مُؤْمِنِينَ) مع أنك قد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم بك معرفة قبل ذلك ، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة وأعظمهم أمانة وأغزرهم عقلا وأعلاهم همة وأبعدهم عن كل ذي دنس.
(وَإِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك ويوضح برهانك (لَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يعجزه أحد (الرَّحِيمُ) بالإمهال لكي يؤمنوا أو أحد من ذرّيتهم : وهذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول صلىاللهعليهوسلم ، وتهديدا للمكذبين له.
فإن قيل : كيف كرّر في هذا السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرّر؟.
أجيب : بأنّ كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها ، فكانت كل