المستقبل فإنهم يذوقونها ، سادسها : المراد بالمتقين أعم من الراسخين وغيرهم وإن ضمير فيها يرجع للآخرة ، فالعاصي إذا أراد الله تعالى تعذيبه بالنار يذيقه فيها موتة أخرى كما جاء في الأحاديث الصحيحة فيكون على المجموع ، سابعها : أن الموتة الأولى في الجنة المجازية فلا يكون ذلك بالمحال وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا.
قال بعض العلماء : الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن التقي فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياه فيها وقربه منه ونظره إليه وذكره له وعبادته إياه وشغله به وهو معه أينما كان ، فإن قيل : أهل النار لا يذوقون الموت أبدا فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه؟ أجيب : بأن البشارة ما وقعت بدوام الحياة فقط بل مع حصول تلك الخيرات والسعادات فافترقا (وَوَقاهُمْ) أي : المتقين (عَذابَ الْجَحِيمِ) أي : التي تقدم أنها لكل كفار أثيم وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله تعالى من أراد منهم النار فيعذب كلا منهم على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله تعالى في الشفاعة فيهم ، فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم من ماء الحياة ، ثم يدخلهم الله تعالى الجنة.
روي عن أنس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل ناس في النار حتى إذا صاروا فحما أدخلوا الجنة فيقول أهل الجنة : من هؤلاء فيقال : هؤلاء الجهنميون» (١). وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمما ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة» (٢) ، فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة.
وقوله تعالى : (فَضْلاً) مفعول لأجله أي : فعل ذلك بهم لأجل الفضل ، وجعله أبو البقاء : منصوبا بمقدر أي : تفضلنا بذلك فضلا أي : تفضلا.
تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله تعالى فضلا وإحسانا وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بفضل الله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بكمال إحسانه إلى اتباعك إحسانا يليق بك ، قال الرازي في اللوامع : أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع الأحوال.
ولما عظمه الله تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه صلىاللهعليهوسلم زاد تعظيمه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى : (ذلِكَ) أي : الفضل العظيم الواسع (هُوَ) أي : خاصة (الْفَوْزُ) أي : الظفر بجميع المطالب (الْعَظِيمُ) لأنه خلاص عن المكاره ولم يدع جهة من الشرف إلا ملأها ، وهذا يدل على أن الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق لأنه تعالى وصفه بكونه فوزا عظيما ، وأيضا فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى من إعطاء تلك الأجرة.
ولما بيّن تعالى الدليل وشرح الوعد والوعيد قال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي : سهلنا القرآن سهولة كبيرة (بِلِسانِكَ) أي : هذا العربي المبين وهم عرب سجيتهم الفصاحة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٢٥٥ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٨ / ٣٢٧ ، والقرطبي في تفسيره ٩ / ٩٩.
(٢) أخرجه الترمذي حديث ٢٥٩٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٩١ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٩٤٢٥.