لهؤلاء البعداء البغضاء (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ) أي : العام الرحمة (وَلَدٌ) أي : على زعمكم والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة وغيرهم (فَأَنَا) أي : في الرتبة ، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بغير مد (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) للرحمن العبادة التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة أي : فأنا لا أعبد غيره لا ولدا ولا غيره ، ولم يشأ لي الرحمن أن أعبد الولد ولا غيره ، أو يكون المعنى : أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص لم أشرك به شيئا أصلا في وقت من الأوقات بما سميتموه ولدا أو شريكا أو غيرهما ، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمته فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاءه لي ولو لا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ولو أن له ولدا لشاء لي عبادته ، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصا يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له فبطلت شبهتكم بمثلها بل بأقوى منها ، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى.
وقال الزمخشري : إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالا مثلها فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها ، ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه فقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه ، وقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقال ابن عباس : إن إن نافية أي : ما كان له ولد فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولدا ولو كان له ولد إله لعبدته تقربا إليه بعبادة ولده ، وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : إن الملائكة بنات الله تعالى فنزلت فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال : (سُبْحانَ رَبِ) أي : مبدع ومالك (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية.
ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلا قال محققا لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له ، ولم يعد العطف لأن العرش من السموات (رَبِّ الْعَرْشِ) أي : المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السموات والأرض (عَمَّا يَصِفُونَ) أي : يقولون من الكذب من أن له ولدا أو شريكا وذلك أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان كذلك فهو لا يقبل التجزي بوجه من الوجوه ، والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله وهذا إنما يعقل فيمن تكون ذاته قابلة للتجزي