(قالُوا) أي : الخزنة لهم (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ) على سبيل التجدد شيئا في أثر شيء (رُسُلُكُمْ) أي : الذين هم منكم وأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم لأن الجنس إلى الجنس أميل والإنسان من مثله أقبل (بِالْبَيِّناتِ) أي : التي لا شيء أوضح منها أرادوا بذلك إلزامهم الحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة ، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها وكذلك رسلنا ورسلهم (قالُوا) أي : الكفار (بَلى) أي : أتونا كذلك (قالُوا) أي : الخزنة لهم (فَادْعُوا) أي : أنتم فإنا لا نشفع لكافر (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) أي : الذين ستروا مرأى عقولهم عن أنوار الحق (إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا كذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة ، من زرع شيئا في الدنيا حصده في الآخرة والآخرة ثمرة الدنيا لا تثمر إلا من جنس ما غرس في الدنيا وفي هذا إقناطهم عن الإجابة.
ولما ذكر تعالى وقاية موسى عليهالسلام وذلك المؤمن من مكر فرعون وقومه منّ بقوله تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) أي : على من عاداهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : اتسموا بهذا الوصف (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بإلزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة وإن غلبوا في بعض الأحيان ، فإن العاقبة تكون لهم ولو بأن يقيض الله تعالى لأعدائهم من يقتص منهم ولو بعد حين وقل أن يتمكن أعداؤهم من كل ما يريدون منهم (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وهو جمع شاهد كصاحب وأصحاب والمراد بهم : من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين ، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب ، وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] وأما المؤمنون فقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣].
وقوله تعالى : (يَوْمَ) بدل من يوم قبله أو بيان له أو نصب بإضمار أعني يوم (لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ) أي : الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير موضعها (مَعْذِرَتُهُمْ) أي : اعتذارهم ، فإن قيل : هذا يدل على أنهم يذكرون الأعذار ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف هذا مع قوله تعالى : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦]؟ أجيب : بأن هذا لا يدل على أنهم ذكروا الاعتذار بل ليس فيه إلا أن ليس عندهم عذر مقبول ، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضا يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر ، وقرأ نافع والكوفيون بالياء التحتية والباقون بتاء الخطاب (وَلَهُمُ) أي : خاصة (اللَّعْنَةُ) أي : البعد عن كل خير مع الإهانة بكل ضير (وَلَهُمُ) أي : خاصة (سُوءُ الدَّارِ) أي : الآخرة أي : أشد عذابها.
ولما بين تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي : بما لنا من العزة (مُوسَى الْهُدى) أي : ما يهتدى به في الدنيا من المعجزات والصحف والشرائع (وَأَوْرَثْنا) أي : بما لنا من العظمة (بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : بعدما كانوا فيه من الذل (الْكِتابَ) أي : الذي أنزلناه عليه وآتيناه الهدى به وهو التوراة إيتاء هو الإرث لا ينازعهم فيه أحد توارثوه خلفا عن سلف ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم وأورثناه لهم من بعد موسى عليهالسلام حال كونه. (هُدىً) أي : بيانا عاما لكل من تبعه (وَذِكْرى) أي : عظة عظيمة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي : القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية.