أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فكان الترغيب في نعيم الجنان والترهيب من عذاب النيران من أعظم وجوه الترغيب والترهيب. والآية من الاحتباك ذكر المتاع أولا دليلا على حذف التوسع ثانيا والقرار ثانيا دليلا على حذف الارتحال أولا.
ثم قال ذلك المؤمن لقومه : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) أي : ما يسوء من أي صنف كان الذكور والإناث المؤمنين والكافرين (فَلا يُجْزى) أي : من الملك الذي لا ملك سواه (إِلَّا مِثْلَها) عدلا منه لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) أي : ولو قل (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ) أي : والحال أنه (مُؤْمِنٌ) إذ لا يصح عمل بدون إيمان (فَأُولئِكَ) أي : العالو الرتبة والهمة (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي : بأمر من له الأمر كله بعد أن تضاعف لهم أعمالهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء (يُرْزَقُونَ فِيها) أي : الجنة من غير احتياج إلى تحيل ولا إلى أسباب (بِغَيْرِ حِسابٍ) لخروج ما فيها لكثرته عن الحصر فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، وهذا من باب الفضل وفضل الله لا حد له ورحمته غلبت غضبه ، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم ، قال الأصبهاني : فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد بسبق الرحمة الغضب فانهدمت قواعد المعتزلة.
ثم كرر الوعظ عليهم بقوله : (وَيا قَوْمِ ما) أي : أي شيء من الحظوظ والمصالح (لِي) في أني (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) والجنة شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافا بحقكم (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) والهلاك بالكفر فالآية من الاحتباك ، ذكر النجاة الملازمة للإيمان أولا دليلا على حذف الهلاك الملازم للكفران ثانيا والنار ثانيا دليلا على حذف الجنة أولا ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بفتح ياء مالي والباقون بسكونها واتفقوا على سكون الياء من تدعونني.
ولما أخبر ذلك المؤمن بقلة إنصافهم إجمالا بينه بقوله : (تَدْعُونَنِي) أي : توقعون دعائي إلى معبوداتكم (لِأَكْفُرَ) أي : لأجل أن أكفر (بِاللهِ) الذي له مجامع القهر والعز والعظمة والكبرياء (وَأُشْرِكَ بِهِ) أي : أجعل له شريكا (ما لَيْسَ لِي بِهِ) أي : بربوبيته (عِلْمٌ) أي : نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعا من الشرك ، فالمراد بنفي العلم نفي الإله كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله.
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بقوله : (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ) أي : أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده (إِلَى الْعَزِيزِ) أي : البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة ، وقرأ نافع وأنا بالمد بعد النون ، وقالون يمد ويقصر وورش بالمد لا غير والباقون بغير مد. وقوله : (الْغَفَّارِ) أي : الذي يتكرر منه دائما محو الذنوب عينا وأثرا إشارة إلى أنهم يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله تعالى بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة فإن الإله العالم وإن كان عزيزا لا يغلب قادرا لا يعارض لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة.
وقوله : (لا جَرَمَ) رد لما دعوه إليه وجرم فعل بمعنى حق وفاعله (أَنَّما) أي : الذي (تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من هذه الأنداد (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) بوجه من الوجوه فإنه لا إدراك له هذا إن أريد ما