لنفسي ، وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم (وَما أَهْدِيكُمْ) أي : بما أشرت به عليكم من قتل موسى وغيره (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي : الذي أرى أنه صواب لا أظهر شيئا وأبطن غيره.
ولما ظهر لهذا المؤمن أن فرعون ذل لكلامه ارتفع إلى أصرح من الأسلوب الأول كما أخبرنا الله تعالى بقوله : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) أي : بعد قول فرعون هذا الكلام الذي دل على عجزه وجهله وذله (يا قَوْمِ) وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم اتهامه فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أي : من المكابرة في أمر موسى عليهالسلام (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي : أيام الأمم الماضية يعني وقائعهم وجمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم مع أن إفراده أردع وأقوى في التخويف وأفظع للإشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على إهلاكهم في أقل زمان.
ولما أجمل فصل وبين أو أبدل بعد أن هول بقوله : (مِثْلَ دَأْبِ) أي : عادة (قَوْمِ نُوحٍ) أي : فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المجادلة والمقاومة لما يريدونه (وَعادٍ وَثَمُودَ) مع ما بلغكم من جبروتهم.
تنبيه : لا بد من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم.
ولما كان هؤلاء أقوى الأمم اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : بالقرب من زمانهم كقوم لوط (وَمَا اللهُ) أي : الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال (يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي : فلا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ولا يهلكهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام وهو أبلغ من قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] من حيث إن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم.
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر قال : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) وقوله : (يَوْمَ التَّنادِ) أجمع المفسرون أنه يوم البعث وفي تسميته بهذا الاسم وجوه ؛ أولها : أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار كما حكى الله تعالى عنهم ، ثانيها : قال الزجاج : هو قوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] ثالثها : ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور فيقولون يا ويلنا. رابعها : ينادون إلى المحشر. خامسها : ينادى المؤمن (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] والكافر (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) [الحاقة : ٢٥]. سادسها : ينادى باللعنة على الظالمين. سابعها : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار ثم ينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. ثامنها : ينادى بالسعادة والشقاوة إلا إن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا وفلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبدا وهذه الأمور كلها تجتمع في هذا اليوم فلا بد من تسميته بها كلها.
ولما كان عادة المتنادين الإقبال وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال تعالى مبدلا أو مبينا : (يَوْمَ تُوَلُّونَ) أي : عن الموقف (مُدْبِرِينَ) قال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار وفروا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا فيرجعون إلى أماكنهم فذلك قوله تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧] وقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) [الرحمن : ٣٣] وقال مجاهد : فارين من النار غير معجزين ، وقيل : منصرفين عن الموقف إلى النار ثم أكد التهديد بقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ) أي : الملك الجبار الذي لا يذل (مِنْ عاصِمٍ) أي : من فئة تحميكم وتنصركم وتمنعكم من عذابه.