بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا عن أن يتعصب له ، وهذا أولى من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل ، وأنشد قول لبيد (١) :
تراك أمكنة إذا لم أرضها |
|
أو ترتبط بعض النفوس حمامها |
وأنشد أيضا قول عمرو بن سهم (٢) :
قد يدرك المتأني بعض حاجته |
|
وقد يكون مع المستعجل الزلل |
وقال الآخر (٣) :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها |
|
دون الشيوخ ترى في بعضها خللا |
وقوله : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له مجامع العظمة (لا يَهْدِي) إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) بإظهار الفساد وبتجاوز الحدود (كَذَّابٌ) فيه احتمالان ؛ أحدهما : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليهالسلام ، والمعنى أن الله تعالى هدى موسى عليهالسلام إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ومن هداه الله تعالى إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفا كذابا ، فدل على أن موسى عليهالسلام ليس من المسرفين الكذابين ، ثانيهما : أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى عليهالسلام كذاب في ادعائه الإلهية والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره.
ولما استدل مؤمن آل فرعون على أنه لا يجوز قتل موسى عليهالسلام ، خوف فرعون وقومه ذلك العذاب الذي توعدهم به في قوله : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فقال : (يا قَوْمِ) وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحا بالمقصود فقال : (لَكُمُ الْمُلْكُ) ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله : (الْيَوْمَ) وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله : (ظاهِرِينَ) أي : عالين على بني إسرائيل وغيرهم ، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء وأهل الرخاء يتوقعون البلاء ونبه بقوله : (فِي الْأَرْضِ) أي : أرض مصر على الاحتياج ترهيبا لهم وعرفها لأنها كالأرض كلها لحسنها وجمعها المنافع ثم حذرهم من سخط الله تعالى فقال : (فَمَنْ يَنْصُرُنا) أي : أنا وأنتم أدرج نفسه فيهم عند ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعادا للتهمة وحثا على قبول النصيحة. (مِنْ بَأْسِ اللهِ) أي : الذي له الملك كله (إِنْ جاءَنا) أي : غضبا لهذا الذي يدعي أنه أرسله فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله تعالى بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد.
ولما قال المؤمن هذا الكلام (قالَ فِرْعَوْنُ) أي : لقومه جوابا لما قاله هذا المؤمن : (ما أُرِيكُمْ) من الآراء (إِلَّا ما أَرى) أي : إنه صواب على قدر مبلغ علمي ولا أرى لكم إلا ما أرى
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٣١٣ ، والخصائص ١ / ٧٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٧٢ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤١٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٥١ ، ومجالس ثعلب ص ٦٣ ، والمحتسب ١ / ١١١ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٣٤٩ ، والخصائص ٢ / ٣١٧ ، ٣٤١.
(٢) البيت من البسيط ، وهو للقطامي في ديوانه ص ٢٥ ، وجمهرة أشعار العرب ٢ / ٨٠٥ ، وديوان المعاني ١ / ١٢٤ ، وللأعشى في تخليص الشواهد ص ١٠٢ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٧٧ ، وبلا نسبة في لسان العرب (بعض) ، ومجالس ثعلب ص ٤٣٧.
(٣) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٧٦٧.