بما كان لهم فيها من عجائب الآثار فقال عز من قائل : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : في أي أرض ساروا فيها (فَيَنْظُرُوا) أي : نظر اعتبار كما هو شأن أهل البصائر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) أي : آخر أمر (الَّذِينَ كانُوا) أي : سكانا للأرض عريقين في عمارتها (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : قبل زمانهم من الكفار كعاد وثمود (كانُوا هُمْ) أي : المتقدمون لما لهم من القوة الظاهرة والباطنة (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء (قُوَّةً) أي : ذوات ومعاني وإنما جيء بالفصل وحقه أنه يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من المعرفة في امتناع دخول اللام عليه ، وقرأ ابن عامر منكم بكاف والباقون بهاء الغيبة (وَ) أشد (آثاراً فِي الْأَرْضِ) لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليه ألوف من السنين ، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن ومع قوتهم (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي : الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة (بِذُنُوبِهِمْ) أي : بسببها (وَما كانَ لَهُمْ) من شركائهم الذين ضلوا بهم هؤلاء ومن غيرهم (مِنَ اللهِ) أي : المتصف بجميع صفات الكمال (مِنْ واقٍ) أي : يقيهم عذابه والمعنى : أن العاقل من اعتبر بغيره وأن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء ، ولما كذبوا رسلهم أهلكهم الله تعالى عاجلا ، وقرأ ابن كثير في الوقف بالياء بعد القاف والباقون بغير ياء واتفقوا على التنوين في الوصل.
ثم ذكر تعالى سبب أخذهم بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : الأخذ العظيم (بِأَنَّهُمْ) أي : الذين كانوا من قبل (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفا إنكارها ، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها.
ولما كان مطلق الكفر كافيا في العذاب عبر بالماضي فقال تعالى : (فَكَفَرُوا) أي : سببوا عن إتيان الرسل عليهمالسلام إليهم الكفر بهم (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي : الملك الأعظم أخذ غضب (إِنَّهُ قَوِيٌ) أي : متمكن مما يريد غاية التمكن (شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يؤبه بعقاب دون عقابه.
ولما سلّى تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء عليهمالسلام قبله وبمشاهدة آثارهم ، سلّاه أيضا بذكر قصة موسى عليهالسلام المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي : على ما لنا من العظمة (مُوسى بِآياتِنا) أي : الدالة على جلالنا (وَسُلْطانٍ) أي : أمر قاهر عظيم جدا لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه (مُبِينٍ) أي : بين في نفسه يتبين لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر ، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول إلى أذاه مع ما له من القوة والسلطان.
(إِلى فِرْعَوْنَ) أي : ملك مصر (وَهامانَ) أي : وزيره (وَقارُونَ) أي : قريب موسى (فَقالُوا) أي : هؤلاء ومن معهم هو (ساحِرٌ) لعجزهم عن مقاهرته أما من عدا قارون فأولا وآخرا بالقوة والفعل ، وأما قارون ففعله آخرا بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولا ، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في النية ، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلا به لأنه لم يتب منه ثم وصفوه بقولهم : (كَذَّابٌ) لخوفهم من تصديق الناس له.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي : بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائنا (مِنْ عِنْدِنا) على ما لنا من القهر فآمن معه طائفة من قومه (قالُوا) أي : فرعون وأتباعه (اقْتُلُوا) أي : قتلا حقيقيا بإزالة الروح (أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا) به أي : فكانوا (مَعَهُ) أي : خصوهم بذلك واتركوا من عداهم فلعلهم يكذبونه (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي : اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن ، قال قتادة : هذا غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى عليهالسلام أعاد القتل