تنبيه : احتج المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة عن المذنبين ، فقالوا : نفي حصول شفيع لهم يطاع يوجب أن لا يحصل لهم هذا الشفيع وأجيبوا بوجوه ؛ أولها : أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع كقولك ما عندي كتاب يباع ، لا يقتضي نفي الكتاب فهذا ينفي أن لهم شفيعا يطيعه الله تعالى (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونس : ٣] ، ثانيها : أن المراد بالظالمين في هذه الآية ههنا الكفار لأنها وردت في زجر الكفار قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، ثالثها : أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق أو لا ، فإن كان المراد : جميعهم فيدخل فيه الكفار ، وعندنا أنه ليس لهذا الجمع شفيعا لأن بعضه كفار وليس لهم شفيع ، فحينئذ لا يكون لهذا الجمع شفيع ، وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع.
ولما أمر الله تعالى بإنذار يوم الآزفة وما يعرض فيه من شدة الغم والكرب وأن الظالم لا يجد من يحميه ولا يشفع له ، ذكر اطلاعه على جميع ما يصدر من الخلق سرا وجهرا فقال تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي : خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر ، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهو الإشارة بالعين ، قال أبو حيان : من كسر عين وغمز ونظر يفهم المراد.
ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر أتبعه أخفى أفعال الباطن فقال تعالى : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي : القلوب فعلم من ذلك أن الله تعالى عالم بجميع أفعالهم لأن الأفعال على قسمين أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، فأما أفعال الجوارح فأخفاها خيانة الأعين والله تعالى عالم بها فكيف الحال في سائر الأعمال ، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله عزوجل : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) وقوله تعالى : (وَاللهُ) أي : المتصف بجميع صفات الكمال (يَقْضِي بِالْحَقِ) أي : الثابت الذي لا ينتفي يوجب عظيم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى. ولما عول الكفار في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام بين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أي : يعبدون (مِنْ دُونِهِ) وهم الأصنام (لا يَقْضُونَ) لهم (بِشَيْءٍ) من الأشياء أصلا فكيف يكونون شركاء لله تعالى ، وقرأ نافع وهشام تدعون بتاء الخطاب للمشركين والباقون بياء الغيبة إخبارا عنهم بذلك.
ولما أخبر تعالى أنه لا فعل لشركائهم وأن الأمر له وحده قال تعالى مؤكدا لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكار ذلك (إِنَّ اللهَ) أي : المنفرد بصفات الكمال (هُوَ) أي : وحده (السَّمِيعُ) أي : لجميع أقوالهم (الْبَصِيرُ) أي : بجميع أفعالهم ، ففي ذلك تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه ، فثبت أن الأمر له وحده فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، فإن كان أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صلىاللهعليهوسلم فيقول : أنا لها أنا لها ، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيه فيشفع فيشفعه الله تعالى ، فيفصل سبحانه وتعالى بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره جنته أو ناره.
ولما أوعدهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة ممن تتبع الديار ، والاعتبار