الذال عند التاء ، والباقون بالإدغام.
(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) إن عبدتموهم (أَوْ يَضُرُّونَ) أي : يضرونكم إن لم تعبدوهم.
ولما أقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام عليهم هذه الحجة الباهرة وهو أنّ الذي يعبدونه لا يسمع دعاءهم حتى يعرف مقصودهم ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرّ فكيف يعبد ما هذه صفته ولم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد.
(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ) أي : مثل فعلنا هذا الفعل العالي الشأن ولو لم يكن عند من نعبدهم شيء من ذلك ، ثم صوّر إحالة آبائهم في نفوسهم تعظيما لأمرهم بقولهم : (يَفْعَلُونَ) أي : فنحن نفعل كما فعلوا فإنهم حقيقيون منا بأن لا نخالفهم مع سبقهم لنا إلى الوجود فهم أرصن منا عقولا وأعظم تجربة فلولا أنهم رأوا ذلك حسنا ما واظبوا عليه ، وهذا تقليد محض خال عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها.
ثم إنّ إبراهيم عليهالسلام. (قالَ) معرضا عن جواب كلامهم لما رآه ساقطا لا يرتضيه عاقل (أَفَرَأَيْتُمْ) أي : تسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم أرأيتم ، أي : إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظرا شافيا (ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) أي : مواظبين على عبادتهم.
(أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) أي : الذين هم أقدم ما يكون فإنّ التقدم والأولية لا يكون برهانا على الصحة ، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم.
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أي : أعداء لي ، وإنما وحده على إرادة الجنس ويجيء العدوّ والصديق في معنى الواحد والجماعة ، قال القائل (١) :
وقوم على ذوي مثرة |
|
أراهم عدوّا وكانوا صديقا |
ومنه قوله تعالى : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠] تشبها بالمصادر كالحنين والصهيل ، وقيل: هو من المقلوب أراد أني عدوّ لهم فإنّ من عاديته فقد عاداك ، وقرأ نافع أفرايتم بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ، ولورش أيضا إبدالها ألفا ، وأسقطها الكسائي ، وحققها الباقون.
فإن قيل : لم قال فإنهم عدوّ لي ولم يقل فإنها عدوّ لكم؟ أجيب : بأنه عليهالسلام صور المسألة في نفسه بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ فاجتنبتها وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى إلى القبول وأبعث إلى الاستماع منه ، ولو قال فإنهم عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة ولأنه دخل في باب من التعريض وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمّل إلى التقبل ، ومنه ما يحكى عن الشافعيّ رضي الله عنه أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب ، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال : ما هو ببيتي ولا ببيتكم ، وقوله (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي : مدبر هذه الأكوان كلها يصح أن يكون استثناء منقطعا بمعنى أنهم عدوّ لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فإني أعبده ، وأن يكون متصلا على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله تعالى فكأنه قال إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوّي بل هو ولي ومعبودي.
ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضدّ الأقصى من كل ما عليه أصنامهم بقوله :
__________________
(١) البيت بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٣ / ٣٢٤.