بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله تعالى : (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع وأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه وقفوه وادعوا له الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.
ولما قرر تعالى أن القرآن كتاب أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله فقال : (ما يُجادِلُ) أي : يخاصم ويماري أي : يفتل الأمور إلى مراده (فِي آياتِ اللهِ) أي : في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدال كالشمس على أنه تعالى إليه المصير بأن يغش نفسه بالشك في ذلك (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) قال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة : ١٧٦] وعن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن جدالا في القرآن كفر» (١). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : «سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم قوما يتمارون في القرآن فقال : إنما أهلك من كان قبلكم أنهم ضربوا كتاب الله بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم عنه فكلوه إلى عالمه» (٢). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : هاجرت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعرف في وجهه الغضب فقال : «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» (٣).
تنبيه : الجدال نوعان : جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل. أما الأول : فهو حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] وحكى عن قوم نوح قولهم : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [هود : ٣٢]. وأما الثاني : فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية فجدالهم في آيات الله هو قولهم مرة هذا سحر ، ومرة هذا شعر ، ومرة هو قول الكهنة ، ومرة أساطير الأولين ، ومرة إنما يعلمه بشر ، وأشباه هذا.
ولما أثبت أن الحشر لا بد منه وأن الله تعالى قادر كل القدرة لأنه لا شريك له ، وهو محيط بجميع أوصاف الكمال تسبب عن ذلك قوله تعالى : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ) أي : تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم (فِي الْبِلادِ) كبلاد الشام واليمن فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزبا واحدا لم يفرقهم شيء ، ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان وكان للإجمال من الردع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل ، قال تعالى : (وَالْأَحْزابُ) أي : الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عددا ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله : (مِنْ بَعْدِهِمْ) كعاد وثمود (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) أي : من هؤلاء (بِرَسُولِهِمْ) أي : الذي أرسلناه إليهم (لِيَأْخُذُوهُ) أي : ليتمكنوا من إصابته بما أرادوه من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير : أخيذ ، وقال ابن عباس : ليقتلوه ويهلكوه (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ)
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٥٨ ، ٤٧٨ ، ٤٩٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ٣٤٦.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٢١.
(٣) أخرجه مسلم في العلم حديث ٢٦٦٦.