اذبحوا الجداء واضربوا بدمائها أبوابكم فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم وآمرهم بقتل أبكار القبط واختبزوا خبزا فطيرا فإنه أسرع لكم ، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري ، وروي أنّ قوم موسى قالوا لقوم فرعون : إن لنا في هذه الليلة عيدا ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر.
فلما سمع فرعون ذلك جمع قومه وتبعهم كما قال تعالى : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) أي : لما أصبح وعلم بهم (فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي : رجالا يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكا لهممهم.
(إِنَّ هؤُلاءِ) إشارة بأداة القرب تحقيرا لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا لما بهم من العجز وبآل فرعون من القوّة فليسوا بحيث يخاف قوتهم (لَشِرْذِمَةٌ) أي : طائفة وقطعة من الناس (قَلِيلُونَ) أي : بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى فذكرهم أولا بالاسم الدال على القلة بالشرذمة وهي الطائفة القليلة ، ومنها قولهم : ثوب شرذم للذي بلي وتقطع قطعا ، ثم جعلهم قليلا بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا واختار جمع السلامة الذي هو للقلة مع أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا وسماهم بشرذمة قليلين وذلك بالنسبة لما أرسله خلفهم ، فإنّ الذي أرسله فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور ومع كل ملك ألف ، وخرج فرعون في جمع عظيم وكان مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة ، وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث فلذلك استقل قوم موسى ، قال الزمخشري ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والقماءة ولا يريد قلة العدد ، والمعنى : أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع عليهم غلبتهم وعلوّهم ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا ، كما قال تعالى عنهم. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي : بما فجعونا به من أنفسهم وبما استعاروه من الزينة من الأواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة فلا رحمة في قلوبهم بجمعهم.
(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي : من عادتنا الحذر والتيقظ واستعمال الحزم في الأمور فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه ، وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء ، والباقون بغير ألف ، قال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحذور وحاذر بمعنى ، وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف.
قيل : الأول للتجدّد لأنه اسم فاعل ، والثاني : للثبات لأنه صفة مشبهة وقيل : الحاذر المتبلج الذي له شوكة السلاح وهو أيضا من الحذر لأنّ ذلك إنما يفعل حذرا ، يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر وأنه يجزئه أربعة أجزاء : أحدها : لوزرائه وكتابه وجنده والثاني : لحفر الأنهار وعمل الجسور والثالث : له ولولده والرابع : يفرّق في المدن ، فإن لحقهم ظلم أو ظمأ أو اشتجار أو فساد غلة أو موت عوامل قوّاهم به ، ويروى أنه قصده قوم فقالوا نحتاج إلى أن نحفر خليجا لنعمر ضياعنا فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملا فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال فسأل عن مبلغ ما أنفقوه في خليجهم فإذا هو مائة ألف دينار ، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها ، فقال : اطرحوها عليهم فإنّ الملك إذا استغنى بمال الرعية يعني رعيته افتقر ، وإن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.