يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين إلى حيث يعلمون وبها يزول الإشكال.
وعن الثاني : بأن هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها بين الشياطين وأجاب أبو علي الجبائي : بأن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى موضع الملائكة ومواضعها مختلفة ، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب ، وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب ، فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم الشهب فيها ، كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة ، وفي جواب أبي علي نظر : إذ ليس في السماء موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.
وعن الثالث : بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلىاللهعليهوسلم لكن بقلة ، ولما جاء النبي صلىاللهعليهوسلم وقعت بكثرة فصارت بسبب الكثرة معجزة.
وعن الرابع : بأن الشياطين ليسوا من نار خالصة وعلى التنزل بأنهم من النيران الخالصة إلا أنها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالا منهم فلا جرم صار الأقوى مبطلا للأضعف ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ؟ فكذلك ههنا.
ولما كان المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر افتتح الله سبحانه هذه السورة بإثبات ما يدل على الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته ، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب ، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أشق وأصعب وجب أن يقدر على ما هو دونه ، وهو قوله تعالى :
(فَاسْتَفْتِهِمْ) أي : سل كفار مكة أن يفتوك بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث وأصله من الفتوة وهي الكرم (أَهُمْ أَشَدُّ) أي : أقوى وأشق وأصعب (خَلْقاً) أي : من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي : من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب.
تنبيه : في الإتيان بمن تغليب للعقلاء وهو استفهام بمعنى التقرير أي : هذه الأشياء أشد خلقا كقوله تعالى (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] وقيل : معنى أم من خلقنا أي : من الأمم الماضية ؛ لأن لفظ من يذكر لمن يعقل ؛ والمعنى : أن هؤلاء الأمم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم الخالية وقد أهلكناهم بذنوبهم فمن الذي يؤمن هؤلاء من العذاب (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) أي : أصلهم آدم بعظمتنا (مِنْ طِينٍ) أي : تراب رخو مهين (لازِبٍ) أي : شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وخمر بحيث يعلق باليد وقال مجاهد والضحاك : منتن فهو مخلوق من غير أب ولا أم.
وقرأ حمزة والكسائي : (بَلْ عَجِبْتَ) بضم التاء والباقون بفتحها ، أما بالضم فبإسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين كما قال تعالى (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩] وقال تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه ، والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما في