على ما أمضى له من الرسالة ، فيحتمل أن تكون تلك العقدة باقية عند الرسالة ، وأن تكون قد زالت عند الدعوة ، ولكن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال ، وهارون كان بتلك الصفة فأراد أن يقرن به ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) [القصص : ٣٤] ومعنى فأرسل إلى هارون : أرسل إليه جبريل واجعله نبيا وآزرني به واشدد به عضدي ، وهذا الكلام مختصر وقد بسطه في غير هذا الموضع وقد أحسن في الاختصار حيث قال : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء ، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) [الفرقان ، ٣٦] حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أولها وآخرها وهما الإنذار والتدمير ، ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله فأراد الله إلزام الحجة عليهم فبعث إليهم رسولين فكذبوهما فأهلكهم.
فإن قيل : كيف ساغ لموسى عليهالسلام أن يأمره ربه بأمر فلا يقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل ، وقد علم أن الله تعالى عليم بحاله؟ أجيب : بأنه قد امتثل وتقبل ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته فمهد قبل التماسه عذرا فيما التمسه ثم التمس بعد ذلك ، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر ولا بتعلل فيه ، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل.
ثم زاد في الاعتذار في طلب العون خوفا من أن يقتل قبل تبليغ الرسالة بقوله : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي : تبعه ذنب فحذف المضاف ، أو سمى باسمه كما يسمى جزاء السيئة سيئة وهو قتله القبطي وسماه ذنبا على زعمهم ، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. (فَأَخافُ) بسبب ذلك (أَنْ يَقْتُلُونِ) أي : يقتلونني به.
(قالَ) الله تعالى (كَلَّا) أي : ارتدع عن هذا الكلام فإنه لا يكون شيء ، مما خفت لا قتل ولا غيره ، وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام عليه من الصدق من البراهين المقوية لصاحبها الشارحة لصدره العلية لأمره عدّ عدما ، وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك.
(فَاذْهَبا) أي : أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتك به مؤيدين (بِآياتِنا) الدالة على صدقكما.
تنبيه : (فَاذْهَبا) عطف على ما دلّ عليه حرف الردع من الفعل كأنه قيل : ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك بآياتنا (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي : سامعون لأنه تعالى لا يوصف بالمستمع على الحقيقة لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن ، ١] ويقال استمع إلى حديثه وسمع حديثه : أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» (١) وهو الكحل المذاب ويروى : البيرم وهو بزيادة الياء ، فإن قيل : لم قال معكم بلفظ الجمع وهما اثنان؟
__________________
(١) يروى : «صب في أذنية الآنك» والحديث أخرجه البخاري في التعبير حديث ٧٠٤٢ ، وأحمد في المسند ١ / ١٢٦ ، ٣٥٩.