ويقال : إنه كان يعمل كل يوم درعا يبيعه بستة آلاف درهم ، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل ، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل ، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما ، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال صلىاللهعليهوسلم : «كان داود عليهالسلام لا يأكل إلا من عمل يده» (١).
ثم ذكر سبحانه وتعالى علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله تعالى بقوله عز من قائل : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي : دروعا طوالا واسعات يجرها لابسها على الأرض ، وذكر الصفة يعلم منها الموصوف ، واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي : نسج الدروع يقال لصانعه : الزراد والسراد فقيل : قدر المسامير في حلق الدروع أي : لا تجعل المسامير غلاظا فتكسر الحلق ولا دقاقا فتتقلقل فيها ويقال : السرد المسمار في الحلقة يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) اجعله على القصد وقدر الحاجة وقيل : اجعل كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلا ينفذ منها سهم ، ولتكن في ثخنها بحيث لا يقطعها سيف ، ولا تثقل على الدرع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر ، والظاهر ـ كما قال البقاعي ـ أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها ، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ولا كان للإلانة كبير فائدة ، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير وقال الرازي : يحتمل أن يقال : السرد هو عمل الزرد وقوله تعالى (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي : أنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب ، والكسب يكون بقدر الحاجة ، وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ، ويدل عليه قوله تعالى (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي : لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ، وأما الكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله تعالى : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : مبصر فأجازيكم به يريد بهذا داود وآله.
تنبيه : كما ألان الله تعالى لداود عليهالسلام الحديد ألان لنبينا صلىاللهعليهوسلم في الخندق تلك الكدية وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم ، فضربها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ضربة واحدة ، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيبا أهيل لا ترد فأسا ، وتلك الصخرة التي أخبره سلمان عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها صلىاللهعليهوسلم ثلاث ضربات كسر في كل ضربة ثلثا منها ، وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة وأضاءت للصحابة رضي الله تعالى عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار ، كأنها مصباح في جوف بيت مظلم فسألوه عن ذلك ، فأخبرهم صلىاللهعليهوسلم أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك ، وأخبره جبريل عليهالسلام أنها ستفتح على أمته ، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر أنها مفتوحة لهم ، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر بفتحها عليهم فصدقه الله تعالى في جميع ما قال (٢) ، وأعظم من ذلك تصلب الخشب له عليهالسلام حتى
__________________
(١) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢٠٧٢.
(٢) انظر حديث الخندق والصخرة عند ابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ١٠١ ـ ١١٠.