الصلاة والسلام إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح ، وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له. وقال وهب بن منبه : كان يقول للجبال سبحي ، وللطير أجيبي ، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئا أطيب منه ، وذلك كما : «كان الحصى يسبح في كف نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما» (١) وكما : «كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل» (٢) ، وكما : «كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه» (٣) ، و«حنين الجذع مشهور» (٤) ، وكما : «كان الضب يشهد له» (٥) و«الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه» (٦) ونحو ذلك ، وكما : «جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها ، فأمره النبي صلىاللهعليهوسلم برده رحمة لها» (٧).
ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها ، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي : الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة ، وذلك في قدرة الله تعالى يسير ، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليهالسلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا ، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود ، واليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا ، فقيض الله تعالى له ملكا في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك : نعم الرجل هو لو لا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله؟ فقال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال : فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع ، وإنه أول من اتخذها يقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله ، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين
__________________
(١) انظر حديث تسبيح الحصى بين يديه صلىاللهعليهوسلم عند أبي داود في الوتر باب ٢٤ ، والترمذي في الدعوات باب ١١٣.
(٢) روي الحديث بلفظ : «كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٥ ، والدارمي في المقدمة باب ٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٦٠.
(٣) روي الحديث بلفظ : «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ» أخرجه مسلم في الفصائل حديث ٢ ، والترمذي في المناقب باب ٣ ، والدارمي في المقدمة باب ٤ ، وأحمد في المسند ٥ / ٨٩ ، ٩٥ ، ١٠٥.
(٤) انظر حديث حنين الجذع عند البخاري في المناقب باب ٢٥ ، والترمذي في الجمعة باب ١٠ ، والمناقب باب ٦ ، والنسائي في الجمعة باب ١٧ ، وابن ماجه في الإقامة باب ١٩٩ ، والدارمي في المقدمة باب ٦ ، والصلاة باب ٢٠٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٤٩ ، ٢٦٧ ، ٣١٥ ، ٣٦٣ ، ٣ / ٢٢٦ ، ٢٩٣ ، ٢٩٥ ، ٣٠٦ ، ٣٢٤ ، ٥ / ١٣٩.
(٥) انظر حديث شهادة الضب له صلىاللهعليهوسلم عند ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ١٥١ ـ ١٥٢.
(٦) انظر حديث «البعير الناد وسجوده له صلىاللهعليهوسلم وشكواه إليه صلىاللهعليهوسلم» عند ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ١٣٨ ـ ١٤٥.
(٧) انظر حديث الحمرة عند ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ١٥٣ ـ ١٥٤.