والأعمال الصالحة قال تعالى (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].
تنبيه : قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء لأن الحبة تبذر أولا ثم تسقى ثانيا وقال تعالى (ما يَعْرُجُ فِيها) ولم يقل ما يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة لأن كلمة إلى للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال (وَما يَعْرُجُ فِيها) ليفهم نفوذه فيها وصعوده وتمكنه فيها ، ولهذا قال في الكلم الطيب (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) لأن الله تعالى هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه (وَهُوَ) أي : والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للأبدان (الرَّحِيمُ) أي : المنعم بإنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان وغير ذلك (الْغَفُورُ) أي : المحاء للذنوب للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائقة للحصر.
تنبيه : قدم تعالى صفة الرحمة على صفة الغفور ليعلم أن رحمته سبقت غضبه.
ثم بين تعالى أن هذه النعمة التي يستحق الله تعالى بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي : أنكروا مجيئها أو استظهارها استهزاء بالوعد به ، وقوله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم (قُلْ) أي : لهم (بَلى) رد لكلامهم وإيثار لما نفوه (وَرَبِّي) أي : المحسن إلي بما عمني به معكم وبما خصني من تنبيئي وإرسالي إليكم إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي : الساعة لتظهر فيها ظهورا تاما الحكمة بالعدل والفصل وغير ذلك من عجائب الحكم والفضل وقوله تعالى (عالِمِ الْغَيْبِ) قرأه نافع وابن عامر برفع الميم على هو عالم الغيب ، أو مبتدأ وخبره ما بعده ، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بجره نعتا لربي وقرأ حمزة والكسائي بعد العين بلام ألف مشددة وخفض الميم (لا يَعْزُبُ) أي : لا يغيب (عَنْهُ مِثْقالُ) أي : وزن (ذَرَّةٍ) أي : من ذات ولا معنى ، والذرة : النملة الحمراء الصغيرة جدا صارت مثلا في أقل القليل فهي كناية عنه ، وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بضمها.
وقوله تعالى (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله تعالى (فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه بالأرواح وما فيها من الملائكة وغيرهم. وقوله تعالى (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى علمه بالأجسام وما في الأرض من غيرها ، فإذا علم الأرواح والأجسام قدر على جمعهما فلا استبعاد في الإعادة. وقوله تعالى : (وَلا أَصْغَرُ) أي : ولا يكون شيء أصغر (مِنْ ذلِكَ) أي : المثقال (وَلا أَكْبَرُ) أي : منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : بين هو اللوح المحفوظ جملة مؤكدة لنفي العزوب.
فإن قيل : فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ أجيب : بأنه تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغار لكونها محل النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال : الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضا مكتوب.
ثم بين علة ذلك كله بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) أي : وإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان فلا يدعه بغير جزاء ، ثم بين جزاءهم بقوله تعالى : (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي : لزلاتهم وهفواتهم لأن الإنسان المبني على