فإن قيل : ما الفرق بين إبائهن وإباء إبليس في قوله تعالى : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣١] أجيب : بأن الإباء هناك كان استكبارا ، لأن السجود كان فرضا وههنا استصغارا لأن الأمانة كانت عرضا.
وإنما امتنعن خوفا كما قال تعالى : (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي : آدم قال الله تعالى لآدم : إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها قال : يا رب وما فيها قال : إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم عليهالسلام وقال : بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك أجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر لما لا يحل فأرخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك لحيين وغلقا فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك سترا فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر. وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة بصخرة ملقاة ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها وقالوا : لا نطيق حملها وجاء آدم عليهالسلام من غير أن يدعى وحرك الصخرة وقال : لو أمرت بحملها لحملتها فقلن : احمل فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال : والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له : احمل فحملها إلى حقويه وقال والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فأراد أن يضعها فقال له الله تعالى : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) قال ابن عباس : ظلوما لنفسه جهولا بأمر الله تعالى وما احتمل من الأمانة وقال الكلبي : ظلوما حين عصى ربه جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقال مقاتل : ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل ، وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني في قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) قولا آخر فقالوا : إن الله تعالى ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقن له وقوله تعالى : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) أي : أبين الأمانة يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) [العنكبوت : ١٣].
(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال : وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق حملا الأمانة أي : خانا فيها ، والأول قول السلف وهو الأولى وقيل : المراد بالأمانة العقل والتكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وتحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ، ومجازوة الحد ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما ، وعن أبي هريرة قال : بينما رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال : «متى الساعة فمضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحدث فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال ، وقال بعضهم : بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال : أين السائل عن الساعة