ولما ذكر تعالى ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن وكان صلىاللهعليهوسلم أعدل الناس فيهما وأشدهم لله خشية ، وكان يعدل بينهن ويعتذر مع ذلك عن ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله : «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» (١) خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله : (تُرْجِي) أي : تؤخر وتترك مصاحبتها (مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي) أي : تضم (إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) وتضاجعها ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بياء ساكنة بعد الجيم من الإرجاء أي : تؤخرها مع أفعال تكون بها راجية لعطفك ، والباقون بهمزة مضمومة وهو مطلق التأخير (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) أي : طلبت (مِمَّنْ عَزَلْتَ) أي : من القسمة (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي : في وطئها وضمها إليك.
تنبيه : اختلف المفسرون في معنى هذه الآية : فأشهر الأقوال أنها في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلىاللهعليهوسلم وطلب بعضهن زيادة في النفقة فهجرهن النبي صلىاللهعليهوسلم شهرا حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله عزوجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين ، وأن لا ينكحن أبدا ، وعلى أن يؤوي إليه من يشاء ويرجي من يشاء فيرضين ، قسم لهن أو لم يقسم قسم ، لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط ، وذلك ؛ لأن النبي صلىاللهعليهوسلم بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع. والرجل وإن لم يكن نبيا فالزوجة في ملك نكاحه ، والنكاح عليها رق ، فكيف زوجات النبي صلىاللهعليهوسلم بالنسبة إليه ، فإذا هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات.
واختلفوا هل أخرج أحدا منهن عن القسم؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحدا منهن عن القسم بل : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع ما جعل الله له من ذلك يسوى بينهن في القسم ، إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة» (٢) وقيل : أخرج بعضهن. روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن يا رسول الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعضهن ، وآوى إليه بعضهن ، فكان ممن أوى : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة ، وكان يقسم بينهن سواء ، وأرجأ منهن خمسا : أم حبيبة وميمونة وسودة وصفية وجويرية ، فكان لا يقسم لهن ما شاء ، وقال مجاهد : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) أي : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد ، وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء.
وقال الحسن : تترك نكاح من شئت من نساء أمتك. قال : وكان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن
__________________
(١) أخرجه أبو داود في النكاح حديث ٢١٣٤ ، والترمذي في النكاح حديث ١١٤٠ ، والنسائي في عشرة النساء حديث ٣٩٤٣ ، وابن ماجه في النكاح حديث ١٩٧١ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٤٤.
(٢) أخرجه مسلم في الرضاع حديث ١٤٦٣.