إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، فإن التاجر يسترزق من السوقة ، والعاملون والصناع من المستعملين ، والملوك من الرعية والرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه إنما هو مسخر للغير يكتسبه ويرسله إلى الأعيان ، وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق ، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق. انتهى.
ولما ذكر تعالى أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثلا أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء قال تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) قال البغوي : ولم يقل كواحدة لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، والمعنى : لستن كجماعة واحدة (مِنَ) جماعات (النِّساءِ) إذا تقصيت جماعة النساء واحدة واحدة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [النساء : ١٥٢] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين وقوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] وقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] والحمل على الأفراد بأن يقال : ليست كل واحدة منكن كواحدة من آحاد النساء صحيح بل أولى ليلزم تفضيل الجماعة ، بخلاف الحمل على الجمع ، وعن ابن عباس معنى لستن كأحد من النساء : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي.
ولما كان المعنى بل أنتن أعلى النساء ذكر شرط ذلك بقوله تعالى : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) الله تعالى أي : جعلتن بينكن وبين غضب الله تعالى وغضب رسوله صلىاللهعليهوسلم وقاية ، ثم سبب عن هذا النهي قوله تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ) أي : إذا تكلمتن بحضرة أجنبي (بِالْقَوْلِ) أي : بأن يكون لينا عذبا رخما ، والخضوع التطامن والتواضع واللين ، ثم سبب عن الخضوع قوله تعالى : (فَيَطْمَعَ) أي : في الخيانة (الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي : فساد وريبة من فسق ونفاق أو نحو ذلك ، وعن زيد بن علي قال : المرض مرضان : مرض زنا ، ومرض نفاق ، وعن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) قال : الفجور والزنا قال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم أما سمعت الأعشى وهو يقول (١) :
حافظ للفرج راض بالتقى |
|
ليس ممن قلبه فيه مرض |
والتعبير بالطمع للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة ؛ لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه ، وأريد من نساء النبي صلىاللهعليهوسلم التكلف للإتيان بهذه بل المرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع.
ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخاوة الصوت أمرهن بضده بقوله تعالى : (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي : يعرف أنه بعيد عن محلّ الطمع من ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع.
ولما أمرهن بالقول وقدمه لعمومه أتبعه الفعل بقوله تعالى : (وَقَرْنَ) أي : اسكن وامكثن
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.