عليهم ريحا ، وجنود الله تعالى تفعل فيهم ما تفعل وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ـ ولو رميته لأصبته ـ فذكرت قول النبي صلىاللهعليهوسلم : لا تحدثن شيئا حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله تعالى بهم لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال : يا معشر قريش ليأخذن كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت : من أنت قال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان فإذا رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف وأخلفنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، وبلغنا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم قال : فرجعت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما أخبرته الخبر ضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء ، فأدناني النبي صلىاللهعليهوسلم فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه ، وألصق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائما حتى أصبحت فقال : قم يا نومان (١).
ثم إن الله تعالى بيّن حال غير الثابتين بقوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) معتب بن قشير وقيل : عبد الله بن أبيّ وأصحابه (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : ضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أي : باطلا استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا ، وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله والتمكين في البلاد حتى حفر الخندق ، فإنه قال : إنه أبصر بما برق له من ضوء صخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور كسرى من الحيرة من أرض فارس ، وقصور الشام من أرض الروم ، وإن تابعيه ليظهرون على ذلك كله ، وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك بن جعشم سوار كسرى بن هرمز كما هو مذكور في دلائل النبوة للبيهقي ، وكذبوا في شكهم ففاز المصدقون وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي : من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) أي : المدينة وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ومدينة الرسول صلىاللهعليهوسلم في ناحية منها ، وفي بعض الأخبار : أن النبي صلىاللهعليهوسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب ، وقال : هي طابة كأنه كره تلك اللفظة فعدلوا عن هذا الاسم الذي وسمها به النبي صلىاللهعليهوسلم إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديما مع نهيه عنه ، واحتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف ، وقال أهل اللغة : يثرب اسم المدينة وقيل : اسم البقعة التي فيها المدينة. وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو العلمية والتأنيث ، وأما يثرب بالمثناة وفتح الراء فموضع آخر باليمن قال الشاعر (٢) :
__________________
(١) انظر السيرة النبوية لابن هشام ٤ / ١٨٨ ـ ١٩٠.
(٢) البيت من الطويل ، ونسب لأكثر من شاعر ، فهو لابن عبيد الأشجعي في خزانة الأدب ١ / ٥٨ ، وللأشجعي في لسان العرب (ترب) ، (عرقب) ، ولعلقمة في جمهرة اللغة ص ١١٢٣ ، وللشماخ في ملحق ديوانه ص ٤٣٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٤٣ ، وللشماخ أو للأشجعي في الدرر ٥ / ٢٤٥ ، وشرح المفصل