بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا) ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم بقوله تعالى : (نِعْمَةَ اللهِ) أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له (عَلَيْكُمْ) أي : لتشكروه عليها بالنفوذ ، لأمره وعبر بالنعمة ؛ لأنها المقصودة بالذات ، والمراد إنعامه يوم الأحزاب وهو يوم الخندق ، ثم ذكر وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها بقوله تعالى : (إِذْ) أي : حين (جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) أي : الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام (فَأَرْسَلْنا) أي : تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم أرسلنا (عَلَيْهِمْ رِيحاً) وهي ريح الصبا قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي بنصرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت الشمال : إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» (١) لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه (وَجُنُوداً) أي : وأرسلنا جنودا من الملائكة (لَمْ تَرَوْها) وكانوا ألفا ولم تقاتل يومئذ ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها على بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إليّ ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا : النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب (وَكانَ اللهُ) أي : الذي له جميع صفات الجلال والجمال (بِما تَعْمَلُونَ) أي : الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك (بَصِيراً) أي : بالغ الإبصار والعلم.
تنبيه : قال البخاري : قال موسى بن عقبة : كانت غزوة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة أربع ، روى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال : دخل حديث بعضهم في بعض أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه؟ قالوا : دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء : ٥١] إلى قوله تعالى : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) [النساء ، ٥٥] فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأجمعوا على ذلك ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك ، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن ، فلما سمع بهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة ، وكان الذي أشار به على النبي صلىاللهعليهوسلم سلمان الفارسي رضي الله عنه وكان أول مشهد شهده سلمان رضي الله عنه مع النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يومئذ حرّ فقال : يا رسول الله إنا كنا
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ١٠٣٥ ، ومسلم في الاستسقاء حديث ٩٠٠.