وهو الكافر يستقل مدّة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر ، وإن علم أنّ مصيره إلى الجنة وهو المؤمن فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان ، وفي هذه الفاء قولان : أظهرهما : أنها عاطفة هذه الجملة على لبثتم ، وقال الزمخشريّ : هي جواب شرط مقدّر أي : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أي : فقد تبين بطلان ما قلتم.
ولما كان التقدير قد أتى فقد تبين أنه كما كنا به عالمين فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن ، عطف عليه قوله تعالى (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ) أي : كونا هو كالجبلة لكم في إنكاركم له (لا تَعْلَمُونَ) أي : ليس لكم علم أصلا لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه والتوصل إليه بأسبابه فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك التكذيب اليوم.
ولما كانت الآيات دالة على أنّ هذه الدار دار عمل وأنّ الآخرة دار جزاء وأنّ البرزخ حائل بينهما فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى ، تسبب عن ذلك قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ) أي : إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) في إنكارهم له (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا ، من قولهم : استعتبني فلان فأعتبته أي : استرضاني فأرضيته ، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما ، والباقون بالتاء الفوقية.
ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول صلىاللهعليهوسلم تقصير بقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا) أي : جعلنا (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) أي : في هذه السورة وغيرها (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي : معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال ، فإن طلبوا شيئا آخر غير ذلك فهو عناد محض ؛ لأنّ من كذب دليلا حقا لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلا جيدا مستقيما ظاهرا لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم.
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعا من الدلائل؟ أجيب : بأنهم سردوها سردا ثم قرروا فردا فردا كمن يقول : الدليل عليه من وجوه الأوّل : كذا ، والثاني : كذا ، والثالث : كذا ، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند ؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : (وَلَئِنْ) اللام لام قسم (جِئْتَهُمْ) يا أفضل الخلق (بِآيَةٍ) مثل العصا واليد لموسى عليهالسلام (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم (إِنْ) أي : ما (أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي : أصحاب أباطيل ، فإن قيل : لم وحد في قوله تعالى (جِئْتَهُمْ) وجمع في قوله تعالى (إِنْ أَنْتُمْ)؟ أجيب : بأنّ ذلك لنكتة وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) [الروم ، ٥٨] أي : جاءت بها الرسل فقال الكفار : ما أنتم أيها المدّعون الرسالة كلكم إلا كذا. وقال الجلال المحلي : إن أنتم أي : محمد وأصحابه ، وأمّا الذين آمنوا فيقولون نحن بهذه الآية مؤمنون.
(كَذلِكَ) أي : مثل هذا الطبع العظيم (يَطْبَعُ اللهُ) أي : الذي له العظمة والكمال (عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) توحيد الله ، فإن قيل : من لا يعلم شيئا أي : فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟ أجيب : بأنّ معناه أنّ من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل.
ثم إنه تعالى سلّى نبيه صلىاللهعليهوسلم بقوله تعالى : (فَاصْبِرْ) أي : على إنذارهم مع هذا الجفاء والردّ