تهديد بقوله تعالى : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تمتعكم في الآخرة وفي هذا التفات من الغيبة.
(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي : دليلا واضحا قاهرا أو ذا سلطان أي : ملك معه برهان ، فقوله تعالى (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) على الأوّل كلاما مجازيا وعلى الثاني كلاما حقيقيا ، وعلى كلا الحالين هو جواب للاستفهام الذي تضمنته أم المنقطعة (بِما) أي : بصحة ما (كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي : فيأمرهم بالإشراك بحيث لا يجدوا بدا من متابعته لتزول عنهم الملامة ، وهذا الاستفهام بمعنى الإنكار أي : ما أنزلنا بما يقولون سلطانا ، قال ابن عباس : حجة وعذرا ، وقال قتادة : كتابا يتكلم بما كانوا به يشركون أي : ينطق بشركهم.
ولما بين تعالى حال المشرك الظاهر شركه بيّن تعالى حال المشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته للدنيا بقوله تعالى : (وَإِذا) معبرا بأداء التحقيق إشارة إلى أنّ الرحمة أكثر من النقمة ، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال (أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي : نعمة من خصب وكثرة مطر وغنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا (فَرِحُوا بِها) أي : فرح بطر مطمئنين من زوالها ناسين شكر من أنعم بها ، ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك. فإن قيل : الفرح بالرحمة مأمور به قال تعالى : (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس ، ٥٨] وههنا ذمّهم على الفرح بالرحمة؟ أجيب : بأنه هناك فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم إذا كان من الله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي : شدّة من جدب وقلة مطر وفقر ونحوه (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من السيئات (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي : ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشكرونه عند النعمة ويرجونه عند الشدّة ، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون بعد القاف ، والباقون بالفتح.
(أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : يعلموا (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي : يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) امتحانا (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق لمن يشاء ابتلاء ، وهذا شأنه دائما مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد ، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا ، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا بل كان حالهم الصبر في البلاء ، والشكر في الرخاء ، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء.
ولما لم تغن عن أحد منهم في استجلاب الرزق قوّته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله ، ولا ضرّه ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته وكان ذلك أمرا عظيما ومنزعا مع شدّة ظهوره وجلالته خفيا دقيقا قال بعضهم (١) :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه |
|
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا |
أشار سبحانه إلى عظمته بقوله مؤكدا لأنّ عملهم في شدّة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظنّ أنّ تحصيله إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر ، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرّر المشاهد للزوال في النفس والغير واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار آلائه (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحات على الوحدانية لله
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.