(وَقُرُوناً) أي : ودمرنا قرونا (بَيْنَ ذلِكَ) أي : الأمر العظيم المذكور وهو بين كل أمتين من هذه الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ، ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول : فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود ، ثم قال الله تعالى : (كَثِيراً) وناهيك بما يقول فيه سبحانه وتعالى أنه كثير وأسند البغوي في تفسير أمة وسطا في البقرة عن أبي سعيد الخدري قال : «قام فينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما بعد صلاة العصر فما ترك شيئا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال : إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عزوجل» (١).
ثم إنه تعالى قال تسلية لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم وتأسية وبيانا لشريعته بالعفو عن أمته : (وَكُلًّا) أي : من هذه الأمم (ضَرَبْنا) أي : بما لنا من العظمة (لَهُ الْأَمْثالَ) حتى وضح له السبيل وقام من غير شبهة الدليل (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي : أهلكنا إهلاكا ، وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا ، وقال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته.
(وَلَقَدْ أَتَوْا) أي : هؤلاء المكذبون من قومك (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ) أي : وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ولذا قال تعالى : (مَطَرَ السَّوْءِ) مصدر ساء وهي قرى قوم لوط ، قال البغوي : كانت خمس قرى ، فأهلك الله تعالى أربعا منها لعملهم الفاحشة ، وبختنصر واحدة منهم وهي صغر وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث فإن قيل : لم عبر تعالى بالقرية وهي قرى؟ أجيب : بأنه تعالى قال ذلك تحقيرا لشأنها في جنب قدرته تعالى وإهانة لمن يريد عذابه. ولانهما كهم على الفاحشة جميعهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد وقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ) أي : لا يخافون (نُشُوراً) أي : بعثا بعد الموت ؛ لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة واستمروا عليه قرنا بعد قرن حتى تمكن منهم ذلك تمكينا لا ينفع معه الاعتبار إلا من شاء الله.
(وَإِذا رَأَوْكَ) أي : مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك ولو لم تأتهم بمعجزة فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول (إِنْ) أي : ما (يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي : مهزوء بك وعبر تعالى بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلىاللهعليهوسلم عن ذلك يقولون : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أي : في دعواه محتقرين له أن تأتيه الرسالة.
وقولهم : (إِنْ) مخففة من الثقيلة أي : إنه (كادَ لَيُضِلُّنا) أي : يصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا) أي : عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يورد مما سبق إلى الذهن أنها حجج ومعجزات (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا) أي : بما لنا من الاجتماع والتعاضد (عَلَيْها) أي : على التمسك بعبادتها قال الله تعالى : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي : في حال لا ينفعهم فيه العمل ولا العلم وإن طالت مدة الإمهال في التمكين (حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) عيانا في الآخرة (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) أي : أخطأ طريقا أهم أم المؤمنون.
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٢٥٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٥ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٦ / ٢٣٤٤.