الكمية ، والوزن العدل في الكيفية ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ،) أي : بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف. قال ابن عباس : كانوا موسرين في نعمة. وقال مجاهد : كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة إن لم يؤمنوا ويتوبوا وهو قوله : (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تؤمنوا (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ،) أي : يحيط بكم فيهلككم جميعا وهو عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت. ٥٤] والمحيط من صفة اليوم في الظاهر ، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور ، كقوله : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود ، ٧٧].
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا ،) أي : أتموا اتماما حسنا (الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ،) أي : الكيل والوزن وآلتهما. فإن قيل : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله تعالى (أَوْفُوا؟) أجيب : بأنهم نهوا أوّلا عن القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ؛ لأنّ في التصريح بالقبيح نفيا عن المنهي وتغييرا له ، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحا بلفظه لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه وجيء به مقيدا. (بِالْقِسْطِ ،) أي : ليكون الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان أمرا بما هو الواجب ؛ لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه غير المأمور به ، وقد يكون محظورا كما في الربا وقوله تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره ، فإنهم كانوا يأخذون من كل شيء يباع كما تفعل السماسرة وكانوا ، يمسكون الناس ، وكانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك ، فظهر بهذا البيان أنّ هذه الأشياء غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة. والحاصل : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النقصان في المكيال والميزان ، وفي الثانية : أمر بإعطاء قدر الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة ، ولهذا قال الفقهاء : إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من الرأس ، فكأنه تعالى نهى أوّلا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا لتحصل له تلك الزيادة. وفي الثاني : أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج بالتعيين عن العهدة كما قيده بقوله تعالى : (بِالْقِسْطِ ،) وفي الآية الثالثة نهى عن النقص في كل الأشياء وكذا قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإنّ العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد ، ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها. وفائدتها : إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليهالسلام.
(بَقِيَّتُ اللهِ) قال ابن عباس : يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن (خَيْرٌ لَكُمْ) مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد : مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ،) أي : مصدّقين بما قلت لكم وأمرتكم به.
فائدة : (بَقِيَّتُ) رسمت هنا بالتاء المجرورة. وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون وقفوا عليها بالهاء. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أعلم جميع أعمالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فسادا. ولما أمرهم شعيب عليهالسلام بشيئين بالتوحيد وبترك البخس.
(قالُوا) له (يا شُعَيْبُ) سموه باسمه استخفافا وغلظة وأنكروا عليه متهزئين به (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ،) أي : تفعل معك فعل من يأمر دائما بتكليفنا (أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ ،) أي : على سبيل المواظبة (آباؤُنا) من الأصنام ، فحذف الذي هو التكليف ؛ لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره ، قالوا