من بيوت من ذكر وإن لم يحضروا إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ظاهرة الحال ، فإن ذلك يقوم مقام الإذن الصريح ، ولذلك خصص هؤلاء فإنهم يعتادون التبسط بينهم وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه ، فإن قيل : إذا كان ذلك لا بد فيه من العلم بالرضا فحينئذ لا فرق بينهم وبين غيرهم؟ أجيب : بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة بل ينبغي أن يشترط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا بخلاف غيرهم لا بد فيه من صريح الإذن أو قرينة قوية ، هذا ما ظهر لي ولم أر من تعرض لذلك ، وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والأكل من طعامه بغير إذنه لهذه الآية ، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ؛ لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم.
فإن قيل : فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟ أجيب : بأن من سرق من ماله لا يكون صديقا له ، وقيل : إن هذا كان أول الإسلام ثم نسخ فلا دليل له فيه ، وقرأ بيوتكم وبيوت وبيوتا ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء الموحدة ، والباقون بالكسر ، وقرأ حمزة والكسائي أمهاتكم في الوصول بكسر الهمزة ، والباقون بالضم ، وكسر الميم حمزة ، وفتحها الباقون.
ولما ذكر تعالى معدن الأكل ذكر حاله بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي : إثم (أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) أي : مجتمعين (أَوْ أَشْتاتاً) أي : متفرقين ، واختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقال الأكثرون : نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة ، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل ، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة ، وقال عطاء عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته ، فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح أي : أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية ، وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاؤوا مجتمعين أو أشتاتا متفرقين ، وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى طعاما وحده ، وكذلك الزمن والمريض ، فبين الله تعالى لهم أن ذلك غير واجب ، وقيل : تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض.
تنبيه : (جَمِيعاً) حال من فاعل تأكلوا ، وأشتاتا عطف عليه وهو جمع شتت ، وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت ، روي أن رجلا قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : إنا نأكل ولا نشبع ، قال : «فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه» (١) ، وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «كلوا جميعا ولا تفرقوا واذكروا اسم الله فإن البركة مع الجماعة» (٢).
ولما بين تعالى مواطن الأكل وكيفيته ذكر الحال التي عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها بقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ) أي : بسبب ذلك أو غيره (بُيُوتاً) أي : من هذه البيوت (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة ، جعل أنفس المؤمنين كالنفس الواحدة كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء ، ٢٩] وقال ابن عباس : إذا لم يكن في البيت أحد فليقل : السّلام علينا من ربنا ، السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وقال قتادة : إذا دخلت
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٥٠١.
(٢) أخرجه ابن ماجه في الأطعمة حديث ٣٢٨٧.