وسبب هذا الاختلاف أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيران على الأجرام الكثيفة المحاذية لها وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا على ضرب من التجوز كالأمثلة المتقدمة أو على تقدير مضاف كقولك : زيد كرم وجود ، ثم تقول : ينعش الناس بكرمه وجوده ، والمعنى ذو نور السموات والأرض ونور السموات والأرض الحق شبه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة ، ٢٥٧] أي : من الباطل إلى الحق ، وأضاف النور إلى السموات والأرض لأحد معنيين إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض ، وإما أن يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به ، واختلف أيضا في معنى قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) فقال ابن عباس : مثل نوره الذي أعطى المؤمن أي : مثل نور الله في قلب المؤمن وهو النور الذي يهتدي به كما قال تعالى : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر ، ٢٢] ، وقال الحسن وزيد بن أسلم : أراد بالنور القرآن ، وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : أراد بالنور : الطاعة سمى طاعة الله نورا ، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضلا أي : صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة (كَمِشْكاةٍ) أي : كصفة مشكاة وهي الكوة في الجدار غير النافذة (فِيها مِصْباحٌ) أي : سراج ضخم ثاقب (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي : قنديل من زجاج شامي أزهر وإنما ذكر الزجاجة ؛ لأن النور وضوء النهار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج.
ثم وصف الزجاجة بقوله تعالى : (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها) أي : النور فيها (كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي : مضيء شبهها في الضوء بإحدى الدراري من الكواكب الخمسة العظام وهي المشاهير المشتري والزهرة والمريخ وزحل وعطارد.
فإن قيل : لم شبه بالكواكب ولم يشبه بالشمس والقمر؟ أجيب : بأنهما يلحقهما الخسوف والكسوف والكواكب لا يلحقها ذلك.
وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام والباقون بضمها منسوب إلى الدر أي : اللؤلؤ في صفاته وحسنه ، وإن كان الكوكب أكثر ضوء من الدر لكن يفضل الكواكب بصفائه كما يفضل الدر سائر الحب ، وهمز مع المد أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي والباقون بغير همز وكل من أهل الهمز على مرتبته في المد (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أي : ابتداء توقده من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت فتيلة المصباح بزيت الشجرة ، وهي شجرة كثيرة البركة وفيها منافع كثيرة ؛ لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو أدام وهو أصفى الأدهان وأضوؤها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على وزن تفعل على الماضي أي : المصباح ، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية وتخفيف القاف أي : المصباح (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي : ليست بشرقية وحدها لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس إذا طلعت بل هي مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ ، وهذا كما يقال : فلان ليس أسود ولا أبيض أي : ليس أسود خالصا ولا أبيض خالصا بل اجتمع فيه كل واحد منهما ، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة ، هذا قول ابن عباس والأكثرين ، وقال السدي وجماعة : معناه أنها ليست مقنأة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة