الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص ، ١٨] بالمهاجرة إلى مدين.
المنة السادسة : قوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) قال ابن عباس : اختبرناك اختبارا وقيل : ابتليناك ابتلاء ، قال ابن عباس : الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى منها أوّلها : أنّ أمّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمّه ثم أخذه بلحية فرعون حتى همّ بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفا.
فإن قيل : إنه تعالى عدد أنواع مننه على موسى في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً؟)
أجيب : بجوابين الأوّل : (فَتَنَّاكَ) أي : خلصناك تخليصا من قولهم : فتنت الذهب إذا أردت تخليصه من الفضة أو نحوها. الثاني : أنّ الفتنة تشديد المحنة يقال : فتن فلان عن دينه إذا اشتدّت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت ، ١٠] وقال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٢ ، ٣] ولما كان التشديد في المحنة يوجب كثرة الثواب عده الله تعالى من جملة النعم وتقدّم تفسير ابن عباس وهو قريب من ذلك ، فإن قيل : هل يصح إطلاق الفتان على الله تعالى اشتقاقا من قوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً؟) أجيب : بأنه لا يصح لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي.
المنة السابعة : قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) والتقدير : وفتناك فخرجت خائفا إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم عند شعيب وتزوّجت بابنته وهي إمّا عشر أو ثمان لقوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) [القصص ، ٢٧] وقال وهب : لبث موسى عند شعيب ثمانا وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته فإنه قضى أوفى الأجلين والآية دالة على أنه لبث عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر كما قاله الرازي وإن قال ابن عادل يرده قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص ، ٢٩] أي : الأجل المشروط عليه في تزويجه وسار بأهله ومدين بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) أي : على القدر الذي قدّرت أنك تجي فيه لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر وقال عبد الرحمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى فيه للأنبياء وهذا قول أكثر المفسرين أي : على الموعد الذي وعد الله وقدّر أنه يوحي إليه بالرسالة وهو أربعون سنة وكرّر تعالى قوله : (يا مُوسى) عقب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.
المنة الثامنة : قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ) أي : اخترتك (لِنَفْسِي) لأصرّفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك.
ثم بيّن تعالى ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء بقوله تعالى : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) أي : بمعجزاتي وقال ابن عباس : الآيات التسع التي بعث بها موسى وقيل : إنها العصا واليد لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع ولم يذكر أنه أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى حكاية عن فرعون : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ