أي : موسى بالتابوت (فِي الْيَمِ) أي : نهر النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أي : شاطئه والأمر بمعنى الخبر والضمائر كلها لموسى فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر.
تنبيه : اليمّ البحر والمراد به هنا نيل مصر في قول الجميع واليمّ اسم يقع على النهر والبحر العظيم قال الكسائي : والساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي : يحسره إذا علاه وقوله تعالى : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) أي : فرعون جواب (فَلْيُلْقِهِ) وتكرير عدوّ للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع أي : سيصير عدوّا له بعد ذلك فإنه لم يكن في ذلك الوقت بحيث يعادى ، روي أنها اتخذت تابوتا قال مقاتل : إنّ الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون وجعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليمّ وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم إذا بتابوت يجري به الماء فأمر فرعون الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ أصبح الناس وجها فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه كما قال تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) وهذه هي المنة الثانية قال الزمخشري : (مِنِّي) لا يخلوا إمّا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإمّا أن يتعلق بمحذوف وهو صفة لمحبة أي : محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وآسية حتى قالت (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) [القصص ، ٩] لا تقتلوه. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من يراه وهو كقوله تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم ، ٩٦] المنة الثالثة قوله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي : تربى على رعايتي وحفظي لك فأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ويقول للصانع : اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي.
تنبيه : (وَلِتُصْنَعَ) معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك ، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون.
المنة الرابعة قوله تعالى : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) والعامل في (إِذْ) ألقيت أو تصنع ويجوز أن يكون بدلا من (إِذْ أَوْحَيْنا) واستشكل بأنّ الوقتين مختلفان متباعدان وأجيب : بأنه يصح مع اتساع الوقت كما يصح أن يقول لك الرجل : لقيت فلانا سنة كذا فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) يروى أنّ أخته واسمها مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم ذلك فقالوا نعم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك ورؤيتك (وَلا تَحْزَنَ) أي : هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.
المنة الخامسة : قوله تعالى : (وَقَتَلْتَ نَفْساً) قال ابن عباس : هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن وكزه حين استغاثه الإسرائيلي إليه قال الكسائي : كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي : من غم قتله خوفا من اقتصاص فرعون كما قال تعالى في آية : (فَأَصْبَحَ فِي