كان التعاون على الدين منقبة عظيمة أراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله فقال : (مِنْ أَهْلِي) أي : أقاربي وقوله : (هارُونَ) قال الجلال المحلي : مفعول ثان وقوله : (أَخِي) عطف بيان وذكر غيره أعاريب غير ذلك لا حاجة لنا بذكرها.
تنبيه : الوزير مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه ، أو من الوزر لأنّ الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره ، أو من المؤازرة وهي المعاونة. قال الرازي : وكان هارون مخصوصا بأمور منها الفصاحة لقول موسى : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) [القصص ، ٣٤] ومنها الرفق لقول هارون : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [طه ، ٩٤] أنه كان أكبر سنا منه وقال ابن عادل : كان أكبر سنا من موسى بأربع سنين وكان أفصح لسانا منه وأجمل وأوسم أبيض اللون وكان موس آدم اللون أقنى جعدا.
ولما طلب موسى من الله تعالى أن يجعل هارون وزيرا له طلب منه أن يشد أزره بقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي : أقوّي به ظهري (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي : في النبوّة والرسالة ، وقرأ ابن عامر بسكون الياء من أخي وهمزة مفتوحة من أشدد وهو على مرتبته في المدّ وهمزة مضمومة من أشركه وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وأشركه بهمزة مفتوحة والباقون بسكون الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وفتح الهمزة من أشركه.
ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال : (كَيْ نُسَبِّحَكَ) تسبيحا (كَثِيراً) قال الكلبي : نصلي لك كثيرا نحمدك ونثني عليك والتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عما لا يليق به.
(وَنَذْكُرَكَ) ذكرا (كَثِيراً) أي : نصفك بصفات الكمال والجلال والكبرياء وجوّز أبو البقاء أن يكون (كَثِيراً) نعتا لزمان محذوف أي : زمانا كثيرا.
(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي : عالما بأنّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك أو بصيرا بأنّ الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوّة إليها أو بصيرا بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو الأصلح لنا.
ولما سأل موسى ربه تلك الأمور المتقدّمة وكان من المعلوم أنّ قيامه بما كلف به لا يتم إلا بإجابته إليها لا جرم (قالَ) الله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي : أعطيت جميع ما سألته منا عليك لما فيه من وجوه المصالح
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي : أنعمنا عليك في وقت آخر وفي ذلك تنبيه على أمور أحدها : كأنه تعالى قال : إنّي راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ثانيها : إنّي كنت ربيتك فلو منعتك الآن كان ذلك ردّا بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي ثالثها : إنّا أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك الدرجة العالية وهي منصب النبوّة فكيف يليق بمثل هذه التربية المنع عن المطلوب فإن قيل : لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أنّ هذه اللفظة مؤذية والمقام مقام تلطف؟ أجيب : بأنه إنما ذكر ذلك ليعرف موسى أنّ هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقا لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها لمحض فضله وإحسانه ، فإن قيل : لم قال : (مَرَّةً أُخْرى) مع أنه تعالى ذكر مننا كثيرة؟ أجيب : بأنه لم يعن بمرّة أخرى واحدة من المنن لأنّ ذلك قد يقال في القليل والكثير ، ثم بيّن تلك المنة وهي ثمانية أولها قوله تعالى :