الحياة الدنيا (وَهُمْ يَحْسَبُونَ) أي : يظنون ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر (أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي : عملا يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق.
ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى : (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي : بدلائل توحيده من القرآن وغيره (وَلِقائِهِ) أي : رؤيته لأنه يقال : لقيت فلانا أي : رأيته فإن قيل : اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر ، ١٢] وذلك في حق الله تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب الله تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب : بأنّ لفظ اللقاء ، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول : إن المراد لقاء ثواب الله قال : لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار ، ثم قال تعالى : (فَحَبِطَتْ) أي : فبسبب جحدهم الدلائل بطلت (أَعْمالُهُمْ) فصارت هباء منثورا فلا يثابون عليها ، وفي قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) قولان : أحدهما : أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار ، تقول العرب : ما لفلان عندي وزن أي : قدر لخسته ، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» ، وقال : اقرؤوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً»)(١) ، الثاني : لا نقيم لهم ميزانا لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات ، وقال أبو سعيد الخدري : تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.)
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى : (ذلِكَ) أي : الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم (جَزاؤُهُمْ) ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى : (جَهَنَّمُ) وصرّح بالسببية بقوله تعالى : (بِما كَفَرُوا) أي : بما أوقعوا التغطية للدلائل (وَاتَّخَذُوا آياتِي) الدالة على وحدانيتنا (وَرُسُلِي) المؤيدين بالمعجزات الظاهرات (هُزُواً) أي : مهزوءا بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقارا.
ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لأحد قسمي أهل الجمع تنفيرا عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيبا في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : باشروا الإيمان (وَعَمِلُوا) تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) من الخصال (كانَتْ لَهُمْ) أي : في علم الله قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس (جَنَّاتُ) أي : بساتين (الْفِرْدَوْسِ) أي : أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان ، روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» (٢) وقال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها ، وقال كعب : الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب ، وقال مجاهد : هو البستان بالرومية ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٧٢٩ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٧٨٥.
(٢) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٧٩٠.