تعالى من الغنى والسعة فيقول : ما عملت فيما آتيتك؟ فيقول : شغلني الملك عن ذلك فيدعي سليمان فيقول : هذا عبدي آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشلغه ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار» (١) ، وعن معاذ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ؛ عن جسده فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به» (٢).
ولما كان المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المذكورة في قوله تعالى : (وَإِذْ) أي : واذكر إذ (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) الذين هم أطوع شيء لأوامرنا المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لإن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال : خلقتني من نار وخلقته من طين وأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد له وكيف أتواضع له ، وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بمعنى هذه المعاملة فقالوا : كيف نجالس هؤلاء الفقراء مع أنّا أناس من أنساب شريفة وهم من أنساب باذلة ونحن أغنياء وهم فقراء ، ذكر الله تعالى هذه القصة تنبيها على أن هذه الطريقة هي نفسها طريقة إبليس حين أمره الله تعالى في جملة الملائكة بقوله تعالى : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود انحناء بلا وضع جبهة تحية له (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) قيل : هم نوع من الملائكة فالاستثناء متصل ، وقيل : هو منقطع وإبليس أبو الجن فله ذرّية ذكرت معه بعد ، والملائكة لا ذرّية لهم وكرّرت هذه القصة لهذا المقصود المذكور. قال البيضاوي : وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن أي : إنما يكرّر لمناسبة ذلك المحل الذي يذكر فيه (فَفَسَقَ) أي : خرج بتركه السجود (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي : سيده ومالكه المحسن إليه والفاء للسببية وفيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان خبيثا في أصله والكلام المستقصى فيه تقدّم في سورة البقرة ثم إنه تعالى حذر عن اتباعه بقوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) الخطاب لآدم وذريته والهاء هنا وفيما سيأتي لإبليس والهمزة للإنكار والتعجب أي : يفسق باستحقاركم فنطرده لأجلكم فيكون ذلك سببا لأن تتخذوه (وَذُرِّيَّتَهُ) شركاء لي (أَوْلِياءَ) لكم (مِنْ دُونِي) تطيعونهم بدل طاعتي وقوله تعالى : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) أي : أعداء حال ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم وصل به قوله تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) من الله إبليس وذريته ، وكان الأصل لكم ولكنه أبرز الضمير ليعلق الفعل بالوصف لإفادة التعميم. روى مجاهد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوما إذ أقبل جمال فقال : أخبروني هل لإبليس زوجة قلت : إنّ ذلك لعرس ما شهدته ثم ذكرت قوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) فعلمت أن لا تكون ذرّية إلا من زوجة فقلت : نعم وقال قتادة : يتوالدون كما يتوالد بنو آدم ، وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض البيضة فتنفلق عن جماعة من الشياطين ، قال مجاهد : من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة والهفاف ومرة وبه يكنى وزلنيور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والأيمان الكاذبة ومدح السلع ونبز وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب ، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة ، ومطوس وهو صاحب
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) أخرجه الدارمي في المقدمة حديث ٥٣٩.