التقديم والتأخير ، أي : لبثوا سنين ثلاثمئة. وأمّا وجه القراءة الأولى فهو أنّ الواجب في الإضافة أن يقال : ثلاثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، كقوله تعالى : (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف ، ١٠٣] وحذف مميز تسع لدلالة ما تقدّم عليه إذ لا يقال : عندي ثلاثمئة درهم وتسعة إلا وأنت تعني تسعة دراهم ، ولو أردت ثيابا أو نحوها لم يجز لأنه ألغاز.
ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم إذا نازعوه في مدّة لبثهم في الكهف بقوله تعالى :
(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ،) أي : فهو أعلم منكم وقد أخبر بمدّة لبثهم ، وقيل : إنّ أهل الكتاب قالوا : إنّ المدّة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ثلاثمئة سنين وازدادوا تسع سنين ، فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال : (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب ما يغيب عن إدراكك والله عز ذكره لا يغيب عن إدراكه شيء فيكون عالما بهذه الواقعة لا محالة وقوله تعالى : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) كلمة تذكر في التعجب ، أي : ما أبصر الله تعالى بكل موجود وما أسمعه بكل مسموع (ما لَهُمْ) أي : أهل السموات والأرض (مِنْ دُونِهِ) أي : الله (مِنْ وَلِيٍ) أي : ناصر (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) أي : في قضائه (أَحَداً) منهم ولا يجعل له فيه مدخلا لأنه غني بذاته عن كل أحد ، وقيل : الحكم هنا علم الغيب ، أي : لا يشرك في علم غيبه أحدا. وقرأ ابن عامر بالمثناة فوق قبل الشين وبسكون الكاف على نهي كل أحد عن الإشراك ، والباقون بالتحتية وضمّ الكاف.
تنبيه : احتج أصحابنا رحمهمالله تعالى بهذه القصة على صحة القول بالكرامة للأولياء وقد قدمنا معرفة الوليّ في سورة يونس عند قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس ، ٦٢] فمما يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول ، أمّا القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات الحجة الأولى : قصة مريم عليهاالسّلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها. الحجة الثانية : قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم سالمين من الآفات مدّة ثلاثمئة سنة وتسع سنين ، وأنّ الله تعالى كان يعصمهم من حرّ الشمس ، ومن الناس من تمسك أيضا في هذه المسألة بقوله تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل ، ٤٠] على أنه غير السيد سليمان والسيد جبريل.
وأما الأخبار فكثيرة منها ما أخرج في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلىّ الله عليه وسلّم أنه قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ؛ عيسى ابن مريم وصبيّ في زمن جريج وصبيّ آخر ؛ أمّا عيسى فقد عرفتموه ، وأمّا جريج فكان رجلا عابدا في بني اسرائيل وكانت له أمّ فكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمّه فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمّي وصلاتي الصلاة خير أم رؤيتها ثم يصلي فدعته ثانيا فقال مثل ذلك حتى تم ثلاث مرّات وكان يصلي ويدعها فاشتدّ ذلك على أمّه فقالت : اللهمّ لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت زانية في بني اسرائيل فقالت لهم : أنا أفتن جريجا حتى يزني بي فأتته فلم تقدر على شيء ، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى صومعته فلما أعياها جريج راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت : ولدي هذا من جريج ، فأتاه بنو اسرائيل وكسروا صومعته وشتموه ثم نخس الغلام قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبيّ صلىّ الّله عليه وسلّم حين قال بيده : يا غلام من أبوك؟ فقال : الراعي. فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب أو