قال للولد : أنت ومالك لأبيك» (١). وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال : «لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر قال : إنها سيئة الخلق قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها واظمأت لك نهارها! قال : لقد جازيتها. قال : ما فعلت؟ قال : حججت بها على عنقي. قال : ما جزيتها» (٢). وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمّه ويقول (٣) :
أنا لها مطية لا تذعر |
|
إذا الركائب نفرت لا تنفر |
ما حملت وأرضعتني أكثر |
|
الله ربي ذو الجلال الأكبر |
تظنني جزيتها يا ابن عمر قال : لا ، والله ولا زفرة واحدة (٤). ولما كان ما ذكر في حق الوالدين عسرا جدّا يحذر من التهاون به أشار بقوله تعالى :
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨))
(رَبُّكُمْ) أي : المحسن إليكم في الحقيقة فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك (أَعْلَمُ) أي : من كل أحد (بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من قصد البرّ بهما وغيره ، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن فإنّ ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سببا لرحمتهما (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي : متقين محسنين في نفس الأمر والصلاح استقامة الفعل على ما يدعو الدليل إليه. وأشار تعالى إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بعد كرّة بقوله تعالى : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) أي : الرجاعين إلى الخير مرّة إثر مرّة بعد جماع أنفسهم عنه (غَفُوراً) أي : بالغ الستر بمن وقع منه تقصير فرجع عنه فإنه مغفور له.
__________________
(١) أخرجه أبو داود حديث ٣٥٣٠ ، وابن ماجه حديث ٢٢٩١ ، ٢٢٩٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٠٤ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٤٨٠ ، ٤٨١.
(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٧٦٧.
(٣) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٤) ذكره القرشي في مكارم الأخلاق ١ / ٧٨ ، والفاكهي في أخبار مكة ١ / ٣١٢.