فإن قيل : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم موسى يصلي في قبره وكيف تصلي الأنبياء بعد الموت وهم في دار الآخرة؟ أجيب : بأن صلاته صلىاللهعليهوسلم بالأنبياء عليهمالسلام ببيت المقدس يحتمل أن الله تعالى جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدّمه عليهم ، ثم إن الله تعالى أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وفضلهم ، وأما مروره بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج ، وأما حكم صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل هم أفضل منهم ، وقد قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) [آل عمران ، ١٦٩] فالأنبياء بعد الموت أولى ، وأمّا حكم صلاتهم فيحتمل أنها بالذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة. قال تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) [يونس ، ١٠] وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس (١) ، ويحتمل أن الله تعالى خصهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم. منها أنه صلىاللهعليهوسلم أخبر أنه رآهم يلبون ويحجون فكذلك الصلاة والله أعلم بحقائق الأمور.
وروي عن شريك بن عبد الله قال : سمعت أنس بن مالك يقول : «ليلة أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم من مسجد الكعبة أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم : أيهم هو. قال أوسطهم : هو خيرهم فقال آخرهم : خذوا خيرهم» وساق حديث المعراج بقصته. قال : «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان قال : ما هذان يا جبريل؟ قال : هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه نهر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده فإذا هو مسك أذفر. قال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هو الكوثر الذي خبأ لك ربك» وذكر في آخر حديثه أنه صلىاللهعليهوسلم قال في آخر الحديث : «ثم علا بي حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار ورب العزة فتدلى فكان منه كقاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه» وذكرت عائشة أنّ الذي دنا فتدلى جبريل عليهالسلام وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة النجم.
فإن قيل : قوله تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) يدلّ على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأنّ كلمة من تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه الصلاة والسّلام : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام ، ٧٥] أي : ملكهما فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل من معراج محمد عليهما الصلاة والسّلام؟ أجيب : بأنه لما أضيفت تلك الآيات إلى الله تعالى دلّ على أنها أفضل مما رآه إبراهيم.
تنبيه : قال النووي في شرح مسلم قد جاء في رواية شريك في حديثه أوهام أنكر عليه العلماء فيها منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه وإنّ الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهرا. وقال الطبراني : كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، وقال الزهري : كان بعد مبعثه صلىاللهعليهوسلم بخمس سنين قال ابن إسحق أسري به صلىاللهعليهوسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل وقيل كان الإسراء في رجب ويقال في رمضان قال النووي وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحق ومما يدل على أنه أسري بجسده صلىاللهعليهوسلم قوله تعالى (أَسْرى بِعَبْدِهِ) ولفظ العبد
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ١٨ ، ١٩ ، والدارمي في الرقاق باب ١٠٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٤٩ ، و ٣٥٤ ، ٣٨٤.