صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع وفي حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقا لتغذية الطفل مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر وبيانه من وجوه :
الأوّل : أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذا يخرج منه ثفل الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاء أو شرابا انطبق ذلك المنفذ انطباقا كليا لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصول الانطباق تارة والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم.
الثاني : عند تولد اللبن في الضرع يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقبا صغيرة ومسامّ ضيقة وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها ولما كانت تلك المسام ضيقة جدّا كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة. وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل فالحكمة في أحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة فكل ما كان لطيفا خرج وكل ما كان كثيفا احتبس في الداخل ولم يخرج فبهذا الطريق يصير اللبن خالصا موافقا لبدن الطفل سائغا للشاربين.
الثالث : أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص ، ولو لا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
وقوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) متعلق بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم عليه ، وقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) بيان وكشف عن كنه الإسقاء. قال الواحدي : الأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل لأنه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى (وَرِزْقاً حَسَناً) كالتمر والزبيب والدبس والخل.
تنبيه : في تفسير السكر وجوه : الأوّل : هو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو : رشد رشدا ورشدا. فإن قيل : الخمر محرمة فكيف ذكرها الله تعالى في معرض الأنعام؟ أجيب : عن ذلك بوجهين : أحدهما : أنّ هذه السورة مكية وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة ، فكأنّ نزول هذه الآية كان في الوقت الذي كانت الخمرة فيه غير محرمة وممن قال بنسخها النخعي والشعبي. الثاني : أنّ الآية جامعة بين العتاب والمنة فالعتاب بالنسبة إلى السكر والمنة بالنسبة إلى رزقا حسنا.
الوجه الثاني : أنّ السكر هو النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر فإذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد فهو حلال عند أبي حنيفة رحمهالله تعالى إلى حد السكر ، ويحتج بهذه