أنهم قبلوه وانتفعوا به كما في قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات ، ٤٥] لأنه إنما انتفع بإنذراه هذا القوم فقط. ولما انقضى الدليل على أنّ قلوبهم منكرة استكبارا وما يتعلق به ، وختمه بما أحيا به القلوب في الإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل ، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة : الإلهيات والنبوّات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار وكان أجلّ هذه المقاصد الإلهيات شرع في ذكر الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدّم ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [النحل ، ١٩]. قوله جامعا في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي.
(وَاللهُ) أي : الذي له الأمر كله (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) في الوقت الذي يريده (ماءً) بالمطر والثلج والبرد (فَأَحْيا بِهِ) أي : بذلك الماء (الْأَرْضَ) بأنواع النبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي : يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً) أي : دلالة واضحة على كمال قدرته تعالى (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : سماع تدبر وإنصاف ونظر لأنّ سماع القلوب هو النافع لاسماع الآذان فمن سمع آيات القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع ومن لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع فلم ينتفع بالآيات ومن الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي : اعتبارا إذا تفكرتم فيها وعرفتم كمال قدرتنا وقوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استئناف بيان للعبرة وإنما ذكر لفظ الضمير لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع كالرهط والقوم ولا من اللبس والدلالة على قوّة المعنى لكونها سورة النعم وأنثه في سورة المؤمنون للمعنى فإنّ الأنعام اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال كقولهم : ثوب أكياش بياء تحتية وشين معجمة ضرب من الثياب يغزل مرتين ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها. وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بفتح النون تقول : سقيته حتى روي. قال تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان ، ٢١]. والباقون بضمها من قولك : أسقاه إذا جعل له شرابا كقوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [المرسلات ، ٢٧]. ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره قدم قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش فإذا خرج منه لم يسم فرثا. (وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) أي : صافيا خلقه الله وسطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما بزرخ من قدرة الله لا يبغي عليه أحدهما بلون أو رائحة أو طعم. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقتسمها فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل ، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم. (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي : سهل المرور في الحلق. وقيل : لم يغص أحد باللبن قط.
تنبيه : قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر ، وذلك لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا آخر بقلب ذلك الدم لبنا ثم دبر تدبيرا آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى