الآية وبقوله صلىاللهعليهوسلم : «الخمر حرام لعينها» (١) وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئا غير الخمر وكل من أثبت هذه المغايرة قال : إنه النبيذ المطبوخ.
الوجه الثالث : أنّ السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة واحتج عليه بقول الشاعر (٢) :
جعلت إعراض الكرام سكرا
أي تنقلب بإعراضهم بأن جعلتها نقلا وتناولتها والنقل ما ينتقل به على الشراب. قال البغوي : وأولى الأقاويل أن قوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) منسوخ انتهى. ويدل له قول الحسن : ذكر الله نعمته عليهم في الخمر قبل أن يحرّمها عليهم. وروي عن ابن عباس قال : السكر ما حرم من ثمرها ، والرزق الحسن ما أحل من ثمرها. وروي عنه أيضا السكر الحرام منه والرزق زبيبه وعنبه ومنافعه. ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً) أي : دلالة على قدرته تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : يستعملون عقولهم بالنظر والتأمّل في الآيات فيعلمون أنّ هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم. ولما بيّن أنّ إخراج الألبان وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ لهذا العالم إلها قادرا مختارا حكيما. ذكر أنّ إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة وهي النحل دليل قاطع. وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود بقوله تعالى :
(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥))
(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وحي إلهام. قال الضحاك : ألهمها ولم يرسل إليها رسولا والمراد من الإلهام أنه تعالى قدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه : الأوّل : ما ذكر الله بقول تعالى : (أَنِ اتَّخِذِي) أي : بأن اتخذي ويجوز أن تكون مفسرة لأنّ في الإيحاء معنى القول : (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) تأوين إليها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتا تشبيها ببيت الإنسان ، فتبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٩٥ ، والدارقطني في سننه ٤ / ٢٥٦ ، والزيلعي في نصب الراية ٤ / ٣٠٦.
(٢) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (سكر) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٥٨ ، وتاج العروس (سكر) ، والكشاف للزمخشري ٢ / ٥٧٦.