مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل ، ثم بيّنه بقوله تعالى : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي : عنده ، أي : الجنة كقوله تعالى : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت ، ٥٠] ولا جهل أعظم ولا أحكم سوءا من أن تقطع بأنّ من تجعل له ما تكره أن يجعل لك ما تحب فكأنه قيل ما لهم عنده؟ فقيل : (لا جَرَمَ) أي لا ظن ولا تردّد في (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي : هي جزاء الظالمين وقيل لا جرم بمعنى حقا. (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي : متركون فيها أو مقدّمون إليها وقرأ نافع بكسر الراء ، أي : متجاوزون الحد والباقون بالفتح. فإن قيل : إنهم لم يقرّوا بالبعث فكيف يقولون إن لنا الحسنى عند الله؟ أجيب : بأنهم قالوا إن كان محمد صادقا في البعث بعد الموت فإن لنا الجنة ، وقيل إنه كان في العرب جمع يقرّون بالبعث والقيامة وأنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون إنّ ذلك الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه.
ثم بين تعالى أنّ مثل هذا الصنيع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدّمين بقوله تعالى : (تَاللهِ) أي : الملك الأعلى (لَقَدْ أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من القدرة رسلا من الماضين (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما أرسلنا إلى هؤلاء (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) أي : المحترق بالغضب المطرود باللعنة (أَعْمالَهُمْ) الخبيثة من الكفر والتكذيب كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم ، وهذا يجري مجرى التسلية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وإنما جعل الشيطان آلة بالإلقاء للوسوسة في قلوبهم وليس له قدرة على أن يضلّ أحدا أو يهدي أحدا وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد الله تعالى شقاوته سلطه الله عليه حتى يقبل وسوسة (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي : في الدنيا وإنما عبر باليوم عن زمانها ، أي : فهو وليهم حين كان يزين لهم أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية ، أي : لا ولي لهم غيره وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم. وقيل : الضمير لقريش ، أي : زين الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم وهو وليّ هؤلاء القوم يغرّهم ويغريهم ، وقيل : يجوز أن يقدّر مضاف ، أي : فهو ولي أمثالهم والوليّ القرين والناصر فيكون نعتا للناصر لهم على أبلغ الوجوه (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم في الآخرة.
ثم ذكر تعالى أنه مع هذا الوعيد الشديد قد أقام الحجة وأزاح العلة بقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة من جهة العلوّ. (عَلَيْكَ) يا أشرف المرسلين (الْكِتابَ) أي : القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) أي : للناس (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من أمر الدين مثل التوحيد والشرك وإثبات المعاد ونفيه فإنه كان فيهم من ينكر البعث ومنهم من يؤمن به ومنهم عبد المطلب ومثل تحريم الحلال كالبحيرة والسائبة وتحليلهم أشياء محرّمة كالميتة. فإن قيل : اللام في لتبين لهم تدل على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض كقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) [إبراهيم ، ١]. وقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات ، ٥٦] أجيب : بأنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل وقوله تعالى : (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي : وإكراما بمحبة معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام على لتبين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل ، ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم نفاه بقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ونظيره قوله تعالى في أوّل البقرة : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ، ٢]. وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث