عالم مقدس عال عن مشابهة جميع المخلوقات ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ، ٢٢].
ثم قال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم الكفار (مَثَلُ السَّوْءِ) أي : الصفة السوء بمعنى القبيحة وهي قتلهم البنات مع احتياجهم إليهنّ للنكاح (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي : الصفة العليا وهي أنه لا إله إلا هو ، وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس : مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن قيل : كيف جاء لله المثل الأعلى مع قوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل ، ٧٤] أجيب : بأنّ المثل الذي يضربه الله تعالى حق وصدق والذي يذكره غيره باطل. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له. (الْحَكِيمُ) الذي لا يوقع شيئا إلا في محله.
ولما حكى الله تعالى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم بين أنه تعالى يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهارا للفضل والرحمة والكرم بقوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي : بسبب كفرهم ومعاصيهم (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي : على الأرض وإنما أضمر ذكرها من غير ذكر لدلالة الناس والدابة عليها. (مِنْ دَابَّةٍ) أي : أنّ الله تعالى لو أخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. فإن قيل : اسم الناس جنس يشمل الكل فيدخل في ذلك الأنبياء فيدل على عدم عصمتهم؟ أجيب : بأنّ ذلك عام مخصوص بقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [فاطر ، ٣٢] فالمذكور في هذه الآية ، إما كل العصاة المستحقين العقاب أو الذين تقدّم ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات ، أو جميع الكفار بدليل قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال ، ٥٥]. وقال قتادة : قد فعل الله تعالى ذلك في زمن نوح عليهالسلام فأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح عليهالسلام. روي أنّ أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سمع رجلا يقول : إنّ الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال : بئسما قلت إنّ الحبارى تموت هزالا من ظلم الظالم. وقال ابن مسعود : إنّ الجعل تعذب في حجرها بذنب ابن آدم ، والجعل بضم الجيم وفتح العين دويبة قاله الجوهريّ. وقيل في معنى الآية : ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل ، ولم توجد الأبناء ولم يبق في الأرض أحد. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) أي : يمهلهم بفضله وكرمه وحلمه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم ، (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) عنه (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي : لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله تعالى لهم ولا ينتقصون منه.
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط إحدى الهمزتين مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين.
والنوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم من البنات وأراذل الأحوال والشركاء في الرياسة. ثم وصف الله تعالى جراءتهم مع ذلك بقوله تعالى : (وَتَصِفُ) أي : وتقول (أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي : مع ذلك