تعالى؟ فقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي : أخبر بولادتها (ظَلَّ وَجْهُهُ) أي : صار أو دام النهار كله (مُسْوَدًّا) من الكآبة والحياء من الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتخجيل كما أنّ بياض الوجه وإشراقه كناية عن الفرح والسرور. (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي : مملوء غيظا على المرأة ولا ذنب لها بوجه والبشارة في أصل اللغة الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور ، ثم خص في عرف اللغة بالسرور ولا يكون إلا بالخبر الأوّل فالمراد بالبشارة هنا الإخبار كما مرّ. وقول الرازي : إنّ إطلاقه على الخير والشر داخل في التحقيق خلاف المشهور.
(يَتَوارى) أي : يستحي (مِنَ الْقَوْمِ) أي : من الرجال الذين هو فيهم (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) خوفا من التعيير وذلك أنّ العرب كانوا في الجاهلية إذا قرب ولادة زوجة أحدهم توارى عن القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن ولد له ذكر ابتهج وسرّ بذلك وظهر ، وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياما متردّدا ما ذا يفعل بذلك الولد (أَيُمْسِكُهُ) أي : يتركه بغير قتل (عَلى هُونٍ) هوان وذل (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) وذكر الضمير في يمسكه ويدسه نظرا للفظ الولد أو لكون الأنثى ولدا كما علم مما مرّ. قال ابن ميلق : قال المفسرون : كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفرة وجلست على شفيرها فإن وضعت ذكرا أظهرته وظهر السرور على أهله ، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمرها بإلقائها في الحفرة وردّت التراب عليها وهي حية لتموت انتهى. وعن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله ، إني واريت ثمان بنات في الجاهلية. فقال له صلىاللهعليهوسلم : «أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة ، فقال : يا نبيّ الله إني ذو إبل. قال : اهد عن كل واحدة منهن هديا» (١). وروي أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام مذ قد أسلمت ، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها فلما انتهيت إلى واد فيه بئر بعيدة القعر ألقيتها فيها فقالت : يا أبت قتلتني ، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار» (٢) ، وكانوا في الجاهلية مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية خوفا من أن يطمع فيهنّ غير الأكفاء وتارة خوفا من الفقر وكثرة العيال ولزوم النفقة. وكان الذي منهم يريد أن يحيي ابنته تركها حتى تكبر ثم يلبسها جبة من صوف أو شعر ويجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية. قال الله تعالى : (أَلا ساءَ) أي : بئس (ما يَحْكُمُونَ) حكمهم هذا وذلك لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأوّلها : أنه يسود وجهه ، وثانيها : أنه يختفي من القوم من شدّة نفرته عن البنت. وثالثها : أنّ الولد محبوب بحسب الطبيعة ثم إنه بسبب نفرته عنها يقدم على قتلها وذلك يدل على أنّ النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغا لا يزاد عليه فكيف يليق بالعاقل أن يثبت ذلك لإله
__________________
(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٨ / ١٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٣٤ ، والطبري في تفسيره ٣٠ / ٤٦ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ٣٥٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٦٩٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٨ / ٣٣٨.
(٢) أخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ١٧٣.