مع الموجود فكان أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال؟ أجيب : بأنّ هذا تمثيل لنفي الكلام والغايات وخطاب مع الخلق بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأنّ ما أراد فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد تعالى خلق الدنيا والآخرة بما فيها من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك ، ولكن خاطب تعالى العباد بما يعقلون ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تبارك وتعالى : يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ، ويكذبني وما ينبغي له. أمّا شتمه إياي فيقول : إنّ لي ولدا. وأمّا تكذيبه فيقول : ليس يعيدني كما بدأني» (١). حديث وفي رواية : «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأمّا تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني ، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا. وأنا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (٢). وقرأ ابن عامر والكسائي بفتح النون من يكون عطفا على يقول أو جوابا للأمر والباقون بالرفع.
ولما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهالة والجهل والضلال ، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وإنزال العقوبة بهم ، وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا من تلك الديار والمساكن فبيّن تعالى حكم تلك الهجرة ، وما لهؤلاء المهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) أي : في حقه ولوجهه لإقامة دينه (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله ، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، فجمع لله تعالى بين الهجرتين ، ومنهم من هاجر إلى المدينة ، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل أخذهم المشركون بمكة يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر ، فأمّا بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدّة الحر ويشدّونه ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول : أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر رضي الله عنه وأعتقه واشترى معه ستة نفر أخر وأمّا صهيب فقال : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر قال له : ربح البيع يا صهيب ، وقال عمر له : نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله نارا لأطاعه. (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي : لننزلنهم (فِي الدُّنْيا) دارا (حَسَنَةً) وهي المدينة وقيل : لنحسنن إليهم في الدنيا بأن نفتح لهم مكة ونمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ، وقيل : أراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية إلى الدين (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) وهي الجنة والنظر إلى وجهه الكريم (أَكْبَرُ) أي : أعظم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي : الكفار والمتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم. وقيل :
__________________
(١) أخرجه بنحوه البخاري في تفسير سورة ١١٢ ، باب ١ ، ٢ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٧ ، ٣٥٠ ، ٣٩٤.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢ ، باب ٨ ، وسورة ١١٢ ، باب ١ ، ٢ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٧ ، ٣٥٠.